اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

من المفارقات الجميلة أن تبدأ بقراءة رواية تبدأ بطوفان في أثناء انشغال العالَم بطوفان من نوع آخر، لكاتب كان قد رحل عنّا قبل الطوفان الأخير بعدة أيام فقط. "لم يصلّ عليهم أحد" (دار نوفل – هاشيت أنطوان 2019) لخالد خليفة، الراحل الرائع، الذي يمكن القول إنك عندما تقرأ فصل العرفان بالجميل في نهاية الرواية، إنه من دون أن يدري، كان يودّع كل أصدقائه وكلّ من يشعر بالامتنان تجاههم في نهاية روايته المنشورة الأخيرة هذه.

تبدأ الرواية بطوفان في حوش حنّا في حلب بداية العام 1907، حيث يموت معظم أقارب زكريّا وحنّا، زوجة حنّا جوزيفين وابنه كابرييل، وابن زكريا والعشرات من أهالي قريتهم التي اندثرت. يسعى زكريا إلى دفن الجميع كما يليق بهم، وعندما ينتهي من مهمته بعد أيام وليالٍ، تنقلنا الرواية إلى حيث بدأ طوفان يتبعه طوفان وسيليه الكثير. ورمزية الطوفان في الرواية لا ترتبط بالماء فقط، بل تتعداه إلى ما شهدته بلادنا وما زالت تشهده حتى اليوم.

حنّا المسيحي الذي فقد أهل وكان الناجي الوحيد من مذبحة ماردين، تربيه عائلة مسلمة وينشأ مع زكريا ويربطهما رابط الصداقة حتى أيامهما الأخيرة، ومعهما سعاد، أخت زكريا، التي تنتهي الرواية مع رسالتين من أعمق وأجمل وأنقى رسائل الحبّ، بينها وبين حنّا. بالإضافة إلى عازار ووليم وديفيد، حيث تمنحنا الرواية قصة كل منهم، مع ما يرافقها من سعي نحو النجاة والسعادة في مجتمع لم يكن، ولا يزال، قد قرّر من هو وما يجمعه وما مستقبله، ويأتي من بعدهم الجيل الثاني المتمثّل بيوسف ووليم الصغير وعائشة الصغيرة، ومريم. وما رافق هذا الجيل من هموم شخصية وهموم المجتمع الذي لم يكن قد وجد إجابات كثيرة بعد.

حنّا وزكريا الماجنان، اللذان يتحوّلان، حنّا على وجه الخصوص، إلى رجلين آخرين، يتحولان من رجلين بنيا قلعة للمجون ومعاقرة الخمر وممارسة الجنس والمقامرة، إلى رجلين يحاول أحدهما، زكريا أن يعود إلى حياته وخيوله ويحاول العودة إلى حياته الطبيعية مع زوجته شاها بأن تحمل من جديد، وحنّا الذي يلجأ إلى "مسيحيته" لينجو، ولكن التيه يحكم حياته، حتى مماته عندما يقرر إنهاء تلك الحياة في النهر الذي طاف وأغرق من يحبهم قبل ستين عامًا. زكريا يحاول العودة إلى حياة طبيعية أرادها، فتموت شاها تاركة ولدًا وبنتًا، يقرر وحنّا تسميتهما على اسم صديقيهما العاشقين اللذين ماتا في سبيل الحب، وليم وعائشة، وليس الاسمان إلّا تعبير صارخ عن حال الانشقاق في مجتمعنا، بين الأديان والطوائف، التي لم تجد لها حلًّا حتى اليوم، بل تبقى تظهر كل حين بلباس جديد لتحمل موتًا من نوع آخر.

يصبح حنّا بمثابة القديس المستقبليّ، فيبني ديرًا وتحاول ماريانا أن توجّهه وتحكي قصصًا عنه وتحمل قضية تتويحه قديسًا بعد موته، وتحاول جاهدةً التحكم بحياته ومصيره، وما ماريانا في هذا النصّ إلّا تلك السُّلطة، دينية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو عائلية، التي تريد أن تختلق وهمًا تعيش عليه وتريد لهذا الوهم أن يصبح حقيقةً، وتريد أن تقف بوجه كلّ من يشكك بهذا الوهم كما فعلت مع زكريا، ولكن الحقيقة الحقة ستنتصر في النهاية، وسيهرب زكريا المريض وحنّا الهارب من قدسيته، لتلحق بهما سعاد في النهاية. اجتماع هؤلاء الثلاثة لم تكن رمزيّته لتكتمل في نهاية النص في مواجهة الوهم والواقع المتأزّم، لو لم ينضمّ إليهم وليم "الشاب" لتقول لنا الرواية في النهاية إنّ الرفض لن يموت مع هؤلاء العجائز، فقد انضمّ إليهم هذا الشاب، ليبدأ رحلته من المكان نفسه، من حوش حنّا، ومن غرفة حنّا نفسها، فيكون هو في غرفته تلك، في مواجهة سيل الناس الذين جاءوا للبحث عن قدّيسهم الغريق. ومن هنا نقول، أليس الوهم هو الذي حكم بلادنا التي حمل همّها خليفة وحمّلها رواياته ومسلسلاته، وكان الضياع مصيرها في كلّ مرّة أراد الناس كسر ذلك الوهم!

النصّ مثقَل بالموت، ولكنه لم يكن موتًا من أجل تراجيديا عبثية لتنقل أحوال البلاد التي يموت أبناؤها من زلزال أو طوفان أو حرب أو وباء، فالكوليرا كانت حاضرة أيضًا في النص، بل ليقول إنّ الموت مهما كان قاسيًا، ومهما كان حقيقيًّا، بل هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة، فإنّ الحبّ سيبقى هو الأقوى وهو الأعمق، وسيبقى هو المتحكّم في مصائر أبناء مجتمعنا، وهنا نمرّ على موت عائشة، ابنة زكريا بالدم وابنة حنّا الروحية، لتؤكّد على أنها بموتها أحيَت فيض الحبّ الكامن في نفوس كلّ من حولها، فكأنها أعادتهم ليكونوا أحياء من جديد.

إنه نصّ صعبٌ، لغةً ورمزية وعمقًا وقيمةً فنية، فيه من التاريخ ومن النقد الاجتماعي والتنبُّؤ بمصير البلاد ما يكفي دراسات كثيرة، ولكنني أريد أن أنهي بأنه من أذكى النصوص الذي تحملك نهايته إلى أن تعيد في بالِك شريط الصفحات الـ 330  التي قرأتها في شريط سريع وكأنك تقرأها كلها في ثوانٍ، فتجمع كلّ الفنية والتأثير لتُنهي الرواية وأنت مُشبَع بالحبّ والتأثّر والتخيّل والتفكير، وبعض الدموع.

 


الأكثر قراءة

الضفة الغربيّة... إن انفجرت