اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يتحدث الكثيرون من السياسيين اللبنانيين عن "إنتهاء إتفاقية سايكس- بيكو" وعن "إعادة رسم خريطة المنطقة". ويطلب البعض منهم من الخبراء والأكاديميين اللبنانيين المتابعين أن "يبرزوا" لهم هذه الخرائط الجديدة. ولعلّهم يقصدون بأن "تشظي" دول قوية إقليمية مثل العراق وسوريا وليبيا قد يصيب تأثيراتها دول أخرى مثل لبنان وتركيا وإيران ودول الخليج.  وربما لهذا يجري الحديث عن "سقوط أو إنتهاء سايكس- بيكو". فهل فعلاً سقطت هذه الإتفاقية، وما هو التقسيم الجديد لدول منطقة الشرق الأوسط، الذي طالما تحدّثت عنه الولايات المتحدة الأميركية عبر موفديها الديبلوماسيين ووزراء خارجيتها المتعاقبين؟!

يقول السفير الدكتور بسّام النعماني صاحب كتاب "مائة عام على اتفاقية سايكس- بيكو: قراءة في الخرائط" لـ "الديار"، بأنّ بعض السياسيين في لبنان يردّدون بأنّ "خريطة سايكس- بيكو القديمة ليست مهمة بالنسبة لهم، والمطلوب "إبراز" خريطة التقسيم الجديدة. ولكأن لا مسؤولية لهم عن إستبيان وإستدلال تلك الخرائط من كل الديبلوماسيين والسياسيين والمبعوثين الأجانب الذين يلتقون بهم".

وفي هذا السياق، يُطرح السؤال حول: مَن هم راسمو خرائط منطقة الشرق الأوسط الجديدة؟ هل هم أنفسهم المبعوثون والسفراء والديبلوماسيون الذين يلتقون بالقادة المحليين، ويتداولون خلال محادثاتهم في شؤون المنطقة؟ يُجيب النعماني: "بالطبع، فهؤلاء الخبراء والديبلوماسيون عكفوا على دراسة اللغات العربية والسامية، ودرسوا تاريخ المنطقة بكل تأن. كما وضعوا "سيناريوهات" بطلب مباشر من حكوماتهم من الدول الكبرى ورفعوها لها، وسيواصلون رفعها لخرائط تقسيم المنطقة الجديدة". 

أما المؤرخون وأساتذة التاريخ فهم يدرسون الملفات الموجودة في أرشيف الدول الكبرى، على ما أضاف النعماني، والتي تتعلق بأمور حصلت منذ ما يقارب القرن من الزمان، والتي رأى المسؤولون الكبار والمختصون في هذه الدول، بأن لا مانع من نشرها وجعلها متوافرة للباحثين والدارسين. وهم طبعاً في الأصل يقصدون بشكل أساسي باحثيهم وخبراءهم المحليين، أو الذين يعملون في دوائرهم الحكومية، كي يستفيدوا من الماضي لإستشراف السياسات الجديدة التي ينبغي إتباعها. ولكن سياسة توفير هذه الوثائق للأساتذة والمختصين اللبنانيين والعرب، خضعت بطبيعة الحال لأصول التبادل الثقافي والفكري بين جميع الأطراف. يعني "أنتم تدرسون وثائقنا الرسمية القديمة... فاسمحوا لنا بدراسة وثائقكم الرسمية القديمة"، أي أنها سياسة مقوننة ومدروسة. وبالرغم من ذلك، لا تزال الدول الكبرى، على رغم مرور أحياناً قرن من الزمن، تجعل الكثير من الوثائق والخرائط القديمة غير متوافرة للباحثين اللبنانيين والعرب.

ويكشف بأنّه اطلع شخصياً على الخرائط الخاصّة بالسير مارك سايكس لتقسيم المنطقة في ملفاته الشخصية في مكتبة وندرمير في بريطانيا، والمفاجأة أنّه لم يكن هناك خريطة واحدة، بل أكثر من عشرين خريطة مختلفة! كلها عبارة عن محاولات وتجريبات للتوصل إلى أفضل الحلول لرسم خريطة الشرق الأوسط الجديدة، بعد هزيمة الدولة العثمانية. كما أنّ أرشيف الدولة البريطانية احتوى على الكثير من خرائط التقسيم المرسومة في وزارات الخارجية والمستعمرات والدفاع خلال الحرب العالمية الأولى، والتي توزع الدول يمنة ويساراً بين العشائر والقبائل والقوميات المختلفة.

أمّا أول من طلب إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط، على ما أكّد النعماني، فهو رئيس وزراء العدو الإسرائيلي دايفيد بن غوريون. وهو كتب عن ذلك في مذكراته. ولم يبرز آنذاك خريطة لمشروعه الإقليمي الجديد. إلا إنه دعا إلى تقسيم مصر وسوريا والعراق إلى دويلات متنافرة على صعيد مذهبي وعرقي. كما دعا إلى تقليص حجم لبنان عن طريق التقدّم إلى نهر الليطاني، والبحث عن "كولونيل" ليقود إنقلاباً عسكرياً، ويُحوّل لبنان إلى بلد مسيحي خالص. ولكن فشله في مؤامرة العدوان الثلاثي في العام 1956 ، وفي أن يقنع الولايات المتحدة بإبقاء سيناء محتلّة، قد أدّت إلى خروجه الباكر من الحكم وإعتزاله العمل  السياسي في مستعمرة في صحراء النقب.

ثم عادت نغمة إعادة رسم خريطة المنطقة خلال وبعد حرب العام 1973، على ما أضاف النعماني، بعد أن تعاونت السعودية ودول الخليج مع مصر وسوريا والعراق، من خلال إستعمال سلاح النفط وقطعه عن أوروبا والولايات المتحدة. فكانت ردة فعل وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر بالتلويح بإحتلال آبار النفط لدول كانت تعتبر الحليفة الرئيس للولايات المتحدة في المنطقة. أما الأكاديميون الخبراء الموالون للصهاينة، من أمثال المستشرق د.برنارد لويس، والذي كان يتقن اللغات العربية والتركية والفارسية، فأصدروا المقالات والخرائط التي تنادي بإعادة تقسيم المنطقة، وتحججوا بأن الدول القائمة فيها هشة ومصطنعة وغير قابلة للعيش. وكان لويس منذ العام 1983، قد ركّز على تقسيم 5 دول إقليمية رئيسية هي:العراق وتركيا وإيران وسوريا وباكستان. كما قسّم لبنان إلى كيان درزي (Druze entity) وكيان ماروني (Maronite entity). (يمكن رؤية هذا التقسيم عند تكبير الخريطة المرفقة لى حجم أكبر). وأبقى على كل الدول الأخرى كما هي. وتوخياً للدقة، فإن الخريطة التي نشرت والمعروفة باسم "مشروع برنارد لويس" التقسيمي، قد رسمتها باحثة أميركية تدعى ليندا ده هويس تعمل في مؤسسة "Intelligence Executive Review" في كتاب أصدرته في العام 1985. إلا أنها في هذه الخريطة استندت إلى أفكار وتصريحات لويس.

وكان لويس قد أثار ضجة كبيرة في وقتها، على ما أضاف النعماني، إذ لم يثر أحد قبله هذا الموضوع بهذا التفصيل والدقة وبرسم خرائط مفصلة. وهو كان يرد بطريقة غير مباشرة على نظرية مستشار الأمن القومي زنبنغيو بريزنسكي. فالأخير كان ينظر لإسقاط الإتحاد السوفياتي من الداخل، عن طريق دعم جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأغلبية الإسلامية والتركية كي تنفصل. بينما كان لويس يحذّر من تيار الأصوليات الإسلامية، ويدعو إلى تقسيم دول آسيا الوسطى بما فيها حليفتي أميركا السابقتين، أي باكستان وإيران، وبأن التيارات الإسلامية هي معادية للغرب تاريخياً وعقائدياً، وأن هذا العداء لن ينضب. ويا ليته اكتفى بخريطة واحدة، فكل سنوات عدة، يعود فينشر آراءه، ولكن مع بعض التعديلات في الخرائط وما سيصيب دول المنطقة في النهاية. وفي العام 1992، قدّم لويس محاضرة شهيرة بعنوان "إعادة التفكير بالشرق الأوسط Rethinking the Middle East"، وتنبأ فيها بأن المنطقة مقدمة على "اللبننة"، أي التقسيم والإنشطار على "الطريقة اللبنانية"، فأضاف مصر والسعودية إلى دوله المرشحة للتقسيم، نظراً لهشاشة نظاميهما وضعفهما الداخليين. ولكن بقيت آراء المستشرق لويس في نظر الكثيرين من المراقبين في إطار التهويل والتهديدات الصهيونية غير القابلة للتحقيق، خصوصاً وأن العلاقات مع السعودية ومصر كانت وثيقة جداً.

ثم حصلت إعتداءات 11 أيلول في نيويورك، فعاد برنارد لويس للبروز كأكثر المنظّرين المقربين من دوائر القرار الأميركي، والمحافظين الجدد في عهدي الرئيسين جورج بوش الأب والإبن. وكان من الداعين إلى التدخل العسكري الأميركي المباشر في المنطقة وإحتلال العراق والمساعدة في إرساء دعائم الديموقراطية في المنطقة، في وجه الأصوليات الإسلامية التي مثلها أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة". بل عادت نغمة إعادة رسم خريطة المنطقة تذر قرنها مرة أخرى مع بداية الربيع العربي، وإنفصال جنوب السودان، والثورة في ليبيا، والحرب الأهلية في اليمن، والإنتفاضة السورية وتوزع مناطق النفوذ فيها بين مختلف الدول الأجنبية. فإنضم إلى قطار المستشرق لويس (هو توفي في العام 2018) عدد أكبر من المنظرين والإعلاميين، مثل روبين رايت ورالف بيترز، وبدأوا، بنشر خرائط تفصيلية لشرق أوسط جديد.

وها هي حرب غزة والتدخل العسكري الأميركي المباشر وغير المباشر فيه، على ما قال النعماني، تعيد إثارة نظريات من يقول بـ "إعادة تنظيم" المنطقة ورسم الخرائط "الجديدة" لها مثلما فعل لويس في الماضي. وتدعو "إسرائيل" حالياً الى دفع حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وإلا فهي تنوي شن حرباً تدميرية على لبنان كله، وأن تتجرع بيروت كأس ما تعاني منه غزة. كما أنها أعلنت أنها تريد القضاء على حركة حماس وإلغائها من الوجود، ونقل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء. والخطوة الثانية لليمين المتطرّف "الإسرائيلي" ستكون "ترانسفير" آخر، ولكن من الضفة الغربية إلى شرق نهر الأردن. وكلّ هذا يندرج في إطار ما يُسمى بـ "إعادة ترتيب أوضاع المنطقة" و"رسم خريطة جديدة" لها.

ويختم السفير النعماني: في الوقت الحالي، لا توجد خريطة واحدة "مفتاح" لتقسيم المنطقة يتم تداولها، بديلة عن خريطة سايكس- بيكو بل على الأرجح عشرات ومئات الخرائط المختلفة، التي يتم تداولها والبحث فيها في مختبرات الدول الكبرى، والجامع بينها كلها هو التقسيم والتفتيت، وما بقي فهو تفاصيل. أما خريطة "سايكس- بيكو فما زالت حية. ولكنها تخلع قناعاً وترتدي قناعاً آخر.



الأكثر قراءة

إنهم يقتلون أميركا...