اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


منذ العام 2019 تتوالى على بلدنا الأزمات، هناك من حوّل المحنة إلى منحة، وهناك من أخفق في المواجهة التحديات المفروضة عليه، فأصيب بأزمات نفسيّة حادّة.

أحد الإضطرابات التي شاعت في السنوات الأخيرة أثناء كورونا والأزمة النقدية والزلازل والإعتداءات الصهيونية وسواها، كان اضطراب ما بعد الصدمة Post-traumatic Stress Disorder or PTSD الذي تختلف درجته وفقا لبنية الإنسان النفسيّة والتعليمية والمجتمعية وسواها من العوامل، وهو اضطراب يمكن احتواؤه كلّما اكتشف مبكرا، بل يتوجّب ذلك لضمان استمرار الحياة بنمط طبيعي نوعا ما.

متى يحصل هذا الإضطراب ولمن؟

الإختصاصية في علم النفس العيادي والمعالجة النفسيّة نسرين زيدان أوضحت لـ"الديار" أنّ هذا الإضطراب يحصل عند وقوع حدث كبير صادم يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على حياة الإنسان، أو على حياة أشخاص مهمّين بالنسبة له، من عائلته أو أقاربه أو أصدقائه، أو على حياة أشخاص قد لا تربطه بهم أيّ صلة ولكن بلدهم في حالة حرب كما في غزة وجنوب لبنان اليوم، فيما أسبابه المباشرة والأكثر شيوعا، هي الحروب والكوارث الطبيعية، وأمور مثل الإعتداء الجنسي، أو العنف الجسدي سواء من داخل الأسرة أو خارجها.

أمّا المعرّضون للإصابة بهذا الإضطراب أكثر من غيرهم، فهم من الذين يكون جهازهم النفسي أكثر جهوزية من غيرهم، ولديهم تراكمات واضطرابات كثيرة منذ الطفولة، وقد لا يكون لديهم الكثير من الأشياء النفسية السيئة في حياتهم، ولكن تكوين الشخصية وطريقة التربية الأسرية تؤثر في تعرّضهم لاضطراب ما بعد الصدمة، فيما الأقلّ عرضة له، هم من أصحاب القناعة والإيمان الحقيقي بالله، إنّما هذا لا يعني أنّهم غير معرضين نهائيا، ولكن التسليم واليقين بقضاء الله وقدره يمكن أن يقلّل فعلا من الإصابة.

وتوقفت زيدان عند الأعراض الملازمة لاضطراب ما بعد الصدمة، وأبرزها الذكريات المتكرّرة للحدث بشكل غير مرغوب فيه، بمشهديات يومية ومتكررة، إذ يبقى الحدث يدور في رأس الشخص، وإضافة أشياء سيئة إليه في بعض الأحيان، وذلك لأنّ الذاكرة تعمل بطريقة غير مفيدة لصاحبها بعد أيّ حدث صادم، فتضيف شعورا سيئا، أو أشياء لم تكن موجودة أثناء الحدث، وترغم دماغنا على تصديقها، وأوضحت أنّ هذا التكرار باستذكار الحدث يجعل الموضوع أسوأ يوما بعد يوم، وتتعاظم الفكرة، فيعيش الشخص الحدث نفسه كلّ يوم ولكن بطريقة سيئة جدا.

وأضافت أنّ المصاب يتعرّض أيضًا لكوابيس ليلية كثيرة حول الحدث، ويشعر بضيق نفسي وجسدي، بحيث تؤثّر نفسه على جسده، وتحدث له أعراض "سايكوسوماتيكية"، كارتجاف أو ارتعاش الجسم، تسارع نبضات القلب، ضيق في التنفس، لافتة إلى أنّ هذا أمر طبيعي لأنّ الدماغ لا يفهم إن كان الحدث حقيقيا أم لا، فإعادة استذكار وتخيّل أيّ حدث كما حصل تماما، وإضافة أحداث نعيشها بتفاصيلها كأنّنا نعيشها الآن، يفهمها الدماغ على أنّها حالة طارئة وآنيّة وأنّ هناك خطرا يحيط بنا، ويرسل بالتالي أمرا للجسم الذي سرعان ما يبدأ بفرز هرمونات الكورتزيول والأدرينالين بشكل يومي وغير منتظم، ما يسبب قلقا دائما، وتوترا جسديا، وتعرقا ونبضات قلب سريعة جدا، وهناك أعراض مثل عدم النوم بشكل سليم، والأرق الدائم، والإحساس بالذنب خصوصا عند من فقد أحدا في ذلك الحدث، يضاف إلى ذلك الشعور بالرعب أو الهلع والقلق الدائم من أي حدث مهما كان بسيطا، حتى لو انتقل المصاب إلى مكان أو بلد أكثر أمنا من بلده مثلا، يستمر معه ذلك الإحساس، لأنّ الدماغ دخل في حالة survive mode، ويشعر أنّه بحاجة دائما لحماية نفسه، وكأنّ الخطر موجود دائما.

ونبّهت زيدان من تعمّد تجنّب تذكر الحدث كما يفعل البعض، فهذا أمر غير سليم، لأنّ دماغنا يفهم التجنّب على أنّه تعرّض، فالقصة التي نتجنّب تذكرها تتكرّر فعليا في دماغنا ولكن بطريقة أسوأ، وبالتالي نؤذي أنفسنا أكثر، فكبت الذكرى لا يعني أنّها اختفت فالدماغ يستذكرها بطريقة لا واعية.

وتطرقت زيدان إلى التشخيص الذي يتّم عادة في عيادة "النفساني" بعد مقابلة الشخص وأهله سواء كان صغيرا أم كبيرا، فهناك أعراض كثيرة قد لا ينتبه إليها المصاب فيما تلاحظها عائلته، شرط أن تكون نفس الأعراض مستمرّة لـ 6 أشهر متتالية، بخاصة أنّ هناك من يتخطّى اضطراب ما بعد الصدمة وحده، إذ يكون جهازه النفسي أقوى من غيره، ولديه قابلية لتدارك الأمور أكثر من غيره، فيما هناك من لديه استعدادات نفسية وجينية لاضطراب ما بعد الصدمة، كما أنّه لا بدّ أن يكون العلاج دوما بين المعالج والمصاب والأهل، خصوصا إذا كان صغيرا.

الفرق بين الصغار والكبار

توقفت زيدان عند الأطفال نظرا لخصوصية وحساسية وضعهم في هذا الموضوع، ولفتت إلى أنّه بعد فترة بسيطة من حدوث الصدمة، عادة ما يعود الطفل إلى طبيعته وكأن شئيا لم يكن، ونظن بأنّه لم يتأثر و أنّه نسي وتخطّى الحدث، إلا أنّ الحقيقة عكس ذلك تماما، فالطفل يخزّن الذكرى، وإذا لم نتدارك الموضوع، وأجرينا عملية تفريغ عند الطفل مبكرا، فإنّ الذكرى ستفجّر أمورا سلبية في شخصيته عندما يصبح كبيرا وواعيا، وستؤثر على مستقبله، مثلا إنّ أضرار الإعتداءات الصهيونية على لبنان وغزة طويلة الأمد، فالعدو يدمّر الأطفال وشباب المستقبل ويتسبب لهم بأضرار وأمراض نفسية مستدامة، مشدّدة على أهمية تدارك ذلك نفسيا، وعلى التثقيف والتوعية عبر الإعلام وسواه من السبل، إذ كلّما تداركنا الإضطراب مبكرا عند هؤلاء الأطفال، كلّما استطعنا ترميم ذواتهم كي يكبروا بقدر كاف من الإتّزان النفسي.

علاجات وتوصيات

وعن أهم العلاجات لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) هي(BT C) و(EMDR)، قالت زيدان إنّ الأول هو العلاج السلوكي المعرفي، (Cognitive Behavioral Therapy)، والثاني هو علاج بحركة العينين السريعة، والطريقتان لا بد أن تكونا فقط من قبل مختصّ نفسي لديه إذن مزاولة المهنة، أمّا في الحالات الصعبة، فمن الضروري تناول مضاد للإكتئاب بوصفة من قبل الطبيب النفسي، ذلك أنّه في حالات كثيرة من اضطراب ما بعد الصدمة يصل المريض إلى مرحلة الإكتئاب الحاد ويفكر بانهاء حياته، ونصحت بضرورة التوجّه إلى أخصائي نفسي لمن يشعر بالأعراض المذكورة ولو بقصد الإستشارة، لفهم ما يحصل معه، وألية عمل دماغه، ففهم الموضوع هو بداية مشوار العلاج، موصية بالإطلاع كثيرا حول الموضوع ، وفي حال كانت الأعراض بسيطة نستطيع أن نستخدم على سبيل المثال: sticky notes في كلّ مكان في المنزل، لنذكر أنفسنا كلما تذكرنا الحدث الصادم، بكيفية عمل دماغنا، ما يعطي تنبيها للعقل الواعي بأنّنا نكرّر الحدث، ونكتب على هذه الأوراق العبارة التي تجعلنا نتوقّف فورا عن التفكير بالموضوع، وبقدر ما تبدو هذه الخطوة بسيطة لكنها تحدث فرقا كبيرا.

الأكثر قراءة

عرب الطناجر...