اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


بعيدًا عن الشقّ الإنساني في هذه القضية، وعن المسّ بمن اضطرته الظروف المعيشية القاسية في لبنان للعمل إلى جمع ما يباع من القمامة كسبيل وحيد للعيش بعد انسداد الطرق الأخرى، أصبح "نكش النفايات" يشكّل إستفزازّا صارخًا صحيًا وبيئيًا، خصوصا في الأمكنة المزدحمة بالسكان، وفي فصل الصيف الذي يعتبر بيئة خصبة لانتشار الروائح الكريهة والفيروسات والقوارض والحشرات، وما يستتبع ذلك من أمراض وتلوّث على مستوى الهواء والمياه والتربة.

صحيح، أنّ العمل في جمع النفايات هو شكل من أشكال الفرز تمهيدًا لإعادة تدوير ما يصلح تدويره، إن كان يسري وفق قواعد بيئية سليمة، وتحت سقف القانون ، لكن ما هو شائع اليوم، النكش الفوضوي، الذي لا نعرف إن كان يخدم إعادة التدوير، أو مصالح الجهات المستولية على المكبّات بهدف بيعها إلى الخارج، وهذا يعني إحداث فوضى من دون فائدة مالية أو بيئية للدولة ومواطنيها.

أحد النكّاشين: يتّم إعادة تدوير ما أبيعه!

في جولة على مناطق مختلفة من لبنان، يطالعنا المشهد التالي: مستوعبات بجانبها كومات من أكياس النفايات المبعثرة، عمال منشغلون بفتح الأكياس وجمع كلّ نوع من أنواع النفايات وحده.

محمود (سوري الجنسية ) أحد النكّاشين، يبلغ من العمر 22 عاما، يعمل "لحسابه الخاص"، تتراكم من حوله عشرات العبوات البلاستيكية وأخرى من الحديد والزجاج والألومينيوم وأكياس النايلون والكرتون، أشار لـ"الديار"، إلى أنّه يبدأ عمله منذ الصباح الباكر حتى الخامسة عصرا حيث تحضر جهات أخرى إلى المكان، يقوم محمود بجمع النفايات وفرزها وبيعها بنحو 300 أو 400 ألف ليرة يوميًا، وهي بدورها تعمل على إعادة تدويرها، وعند سؤال محمود عن الفوضى المحيطة به، نفى أن يكون هو السبب، فهناك جهات تعمل أثناء الليل متسبّبة بذلك، قائلا: " أنا أبحث داخل المستوعبات ولا أنقل الأكياس إلى الخارج وأرميها فأنا لا أحبّ الأذية"، مردفًا كنوع من التعبير عن معاناتهم:" هناك من يتعرّض للأذى بضربه وسرقة ما جمعه خلال اليوم من قبل جهات معينة تضع يدها بالقوة على المستوعبات".

النكش: آثار بيئية بالجملة!

عن الضرر والأثر السلبي لعملية النكش العشوائي على مستويات عدّة، لفتت المهندسة البيئية فاطمة فحص لـ " الديار"، بأنّ النفايات المبعثرة على الطرقات، لها أثر بيئي كبير، نظرًا لخطورتها من الناحية الصحية والإقتصادية والسياحية أيضًا، إذ يصدر عن النفايات المبعثرة والمخمّرة غاز الميثان وهو غاز ضارّ للبيئة، كما تشكل مكان جذب للحشرات والقوارض والحيوانات الشاردة ، ويصدرعنها سائل يتسرّب إلى التربة والمياه الجوفية، إضافة إلى ارتفاع الفاتورة الصحيّة، نتيجة ظهور الحشرات الناقلة للأمراض والأوبئة ، كما تعرّض العمال الصغار، وجامعو النفايات إلى الحوادث الخطرة، كجرح الأيدي نتيجة وجود الحديد والزجاج، ومن الناحية الإقتصادية، تسبّب هدرًا في الوقت نتيجة زيادة ساعات العمل لتجميع النفايات، وزيادة اليد العاملة، و تشويه المناظر الجمالية على الطرقات.

البلديات: إمكانيات محدودة

في الجمع والمنع!

فيما يتعلّق بالبلديات، السلطة المحليّة التي لطالما أخذت على عاتقها مهمة جمع النفايات من الشوارع، إثر الإضرابات المتكرّرة لشركة جمع القمامة في فترات سابقة، ماذا عن دورها وحدود صلاحيتها في تنظيم هذا الأمر؟

عضو إتحاد بلديات الضاحية الجنوبية زهير جلول، أكّد أنّ هناك صلاحيات بيئية للبلدية بحسب القانون ، فنكش المكبّات الأرضية يسيء للمنظر العام، ويُحدث تشوها بصريًا، ويؤدّي إلى زيادة الحشرات والقوارض، ويمكن للبلدية التدخل وإيقاف كلّ من يحاول العبث بالنفايات وصولًا الى الإدّعاء عليه لدى المحامي العام البيئي في جبل لبنان، مضيفًا أنّ النكش يؤثر سلبًا على تيسير عمل شركة جمع القمامة لأنّه يبعثر النفايات وبالتالي يضطرعمال النظافة الى إعادة جمع ما تم بعثرته، وإلى تنظيف المكان، ما يؤخّر انتقال شاحنات رفع النفايات من مكان إلى آخر، ولذلك لا بدّ من وضع حدّ للنكاشين على حدّ تعبيره.

إذًا ما يمنع البلدية

من إيقاف عمليات النكش؟

جزم جلول انّ ما من شيء يمنع البلديات، وهي تكافح هذه الظاهرة، لكن بسبب توسّع المساحة الجغرافية وتعداد الشوارع وكثرة النكاشين وقلّة عدد الشرطة البلدية، لا يظهر أي أثر فعال لمنع النكاشين، علمًا أنّ بلديات الضاحية عادة تمنع النكاشين، إنّما ليس لدينا العدد الكافي للقيام بحملة منع النكاشين بالكامل.

وفي سؤال متصل، لماذا لا تلتزم البلديات مهمّة فرز النفايات والإستفادة المالية منها، أوضح جلول، هناك العديد من المعوّقات العملية إذا أرادت البلدية أن تقوم بعملية الفرز، لأنّ ذلك يلزمه إدارة شاملة لهذه العملية، لجهة توفّر موظفين، إداريين، عمّال وآليات لرفع المفروزات، وأيضًا التعاقد مع جمعيات أو ربّما أفراد لشراء المفروزات، وتنظيم عمليه الفرز من المصدر(البيوت)، فالبلديات لا يمكنها التعاقد مع نكّاشين، ولا تستطيع تنفيذ هذا الأمر ما لم تؤسّس لإدارة متكاملة لهذا المشروع، بينما في حال النكش، فإنّ كل ما يلزم هو عامل مع كيس يضعه على ظهره أو عربة صغيرة، ينقل فيها المفروزات إلى مشغّله.

النكش قانونيا: مباح!

في ظلّ استمراريّة عمليات النكش وفوضويتها، وعدم قدرة البلديات على منعها نهائيًا، هل القانون اللبناني يلحظ ذلك ويستطيع ردع هذه الظاهرة؟

في هذا الشأن، أوضح المحامي خليل عجّور لـ"الديار" أنّ موضوع النكش غير منظّم في القانون اللبناني، ولم ترصد أيّ قاعدة قانونية الحديث عنه للأسف، فهو عمل يمتهنه بعض الناس وليس منظّمًا بقانون أو مرسوم أو أي تشريع، فهذه العملية تتّم بشكل عشوائي ، ولا نستطيع القول إنّ النكش عملية سرقة لأنّ النفايات بالأصل أشياء متروكة، ليس لها مالك، وهي لا تخضع لأيّ نص من نصوص قانون العقوبات، لكن في حال بعثر أحد النفايات، وأخرجها من المستوعب، ورماها في الشارع، يمكن أن نطبّق عليه نصا قانونيا في قانون العقوبات، بأنّه تسبّب في اتساخ الطريق أو خالف التدابير الصادرة عن السلطة أو البلدية، لكنا بما أنّ عملية نكش النفايات غير منظمة بقانون، يمكن اعتبارها أي شيء لا يجرّمه أو يعاقب عليه القانون، ونستطيع إعتباره مباحًا.

وتابع عجّور بأنّ ما يحصل هو أن عملية النكش تسبّب أضرارًا ، والأمر الوحيد الذي ذكره القانون هو المرسوم 5605 /2019، الذي يتحدّث عن فرز النفايات الصلبة، من خلال فرز العضوية عن الصلبة، وعن الغازات و السوائل منها، وفي البيوت والبلديات فقط، فيما العملية التي تحدث في الشارع هي عملية مباحة، لا توقع الضرر، إلّا حين تؤدّي لاتساخ الشارع ، وأردف أنّ الأضرار هي أضرار الفوضى التي تحصل، من خلال جمع النكّاش ما يريد بيعه ورمي الباقي على الأرض، منوّها بأنّ هناك عملية إعادة تدوير تحصل، وهي عملية جيدة بيئيًا.

ولفت عجّور إلى أنّه لا بدّ أن تكون هذه العملية منظمة سواء بتكليف البلديات مهمة الفرز، أو بتكليف وزارة البيئة، أو أشخاص تكون مهمتهم فرز النفايات في المستوعبات أو في المكبّات الضخمة، موضحًا أنّ من أراد هذا العمل، فإنّه يجب أن يحوز على هذه الشروط إذا كان لبنانيًا ، إضافة إلى إجازة عمل إذا كان أجنبيًا ، وأن يتّم تسليمها للبلديات في حال أريد تنظيمها، أمّا في ظل هذه الفوضى، "مين ما كان بينكش وين ما كان وبيسحب اللي بدّو ياه ويبيع مين ما بدّو"، فهذا يتسبّب بفوضى، علمًا أنّ ضرر الفوضى أقلّ بكثير من ضرر إعادة التدوير برأيه، والحلّ الوحيد هو تنظيم هذه المهنة بقانون يحمي من الفوضى في الشارع.

وشرح عجّور أنّ النفايات تعتبر أشياء متروكة، أي بحكم الأشياء التي لا مالك لها، ويستطيع أيّ أحد التصرّف بها، وأنّ ما من قانون ينظّم هذا العمل، وأنّ القانون الأٌقرب، هو المتعلّق بفرز النفايات الصلبة، بالتالي لم يمنع القانون نكش النفايات واستخراج المواد القابلة للتدوير منها، ولأنّ المشرع لم ينظّمها، نحن بحالة فوضى ما يعني أنّ لها أضرار، وكذلك إيجابيات، وختم بأنّ قانون العقوبات جرّم أيّ عمل يؤدي الى تلوّث المياه وتوسيخ الطرقات والشوراع العامة أو التسبّب بطوفان كما في الشتاء مثلا، لإضراره بأملاك الناس والطرقات العامة، بصرف النظر ما إذا كان بفعل النكش أو أيّ فعل آخر.

خلاصة القول... لن ندين النكش بل أثره، والأثر حصل بفعل الفوضى، والفوضى حصلت بفعل غياب الرقابة، وعدم وجود نص صريح في القانون اللبناني حول هذا الموضوع، على أنّ السبب الأبرز لهذه الفوضى وسواها يبقى في سوء إدارة ملف النفايات في لبنان من ألفه إلى يائه، فهل من يسمع!

الأكثر قراءة

عمليات اسرائيلية مكثفة في رفح والاستعدادات لحرب موسعة تتواصل! التيار والقوات في سجال «الوقت الضائع»