اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


تشعر حين يغيب أحد رجال القرن بالتألق الفلسفي والأخلاقي، أن القرن مات. عندما تكون عربياً (من العرب العاربة)، وينظر اليك الآخرون كونك لا شيء، لا شيء على الاطلاق، على قارعة القرن.

ناعوم تشومسكي نظر الينا على أننا شيء يستحق الذكر، وأننا ضحايا تلك الآلهة بالشبق الاغريقي، وقد تسللوا من احدى فوهات جهنم. انه الأميركي الذي ضد أميركا، حتى أن ريتشارد نيكسون أدرجه عام 1968 على لائحة "أعداء البلاد"، وهو اليهودي الذي رفض المقاربة (والقراءة) التوراتية، المقاربة الغرائبية لله وللآخر، حتى لتحسب أنه سبينوزا القرن حين رفع صوته في وجه "الحاخامات". هؤلاء الذين لم يتورعوا عن التنكيل الايديولوجي بالله...

استاذي، ولطالما كان ويبقى ملاذي الفلسفي عندما تضيق الأيام وتضيق اللغات (كم هي كثيرة أيامنا المقفلة وطرقاتنا المقفلة!)، واستاذ كل من يحاول، ولو من وراء الجدران، أن ينظر الى الأفق. أن نكون فوق ذلك النوع الرديء من الوثنية، وحيث الفقهاء أضاعونا بين الشعوذة اللاهوتية والشعوذة السياسية. يجروننا بآذاننا الى "عذاب القبر"،  كما لو أن الحياة ليست المعجزة الالهية العظمى منذ أن هبط آدم وحواء، وكما لو أن الحياة ليست هي الجنة، لا الجحيم الذي صنعناه بأيدينا منذ أن حطم قايين رأس هابيل بالحجر.

انه أهم منظّري الألسنيات، ليضيء تلك العلاقة السحرية والجدلية بين اللغة والكائن البشري. وهو من أهم نجوم الفلسفة التحليلية، بمحاولاته الدائمة تفكيك الأسئلة البشرية. ولكنه ـ وهنا اللحظة الخلاقة ـ رجل القضية أو رجل القضايا العربية في أميركا وفي العالم، ما دام أصحاب الأصوات العالية قد حولونا الى كواتم للصوت. ايها السيد تشومسكي كنت أتمنى لو أتيح لي أن أضع على قبرك زهرة الليلك التي كنت تعشقها. موتك أثار لديّ الرغبة في البكاء. أنحن الى هذا الحد يتامى الثقافة ويتامى السياسة ويتامى الأزمنة؟

اليهودي الوحيد الممنوع من زيارة "اسرائيل"، أعجبه كثيراً آلبرت اينشتاين حين رفض اختياره رئيساً لذلك الغيتو "لأننا وجدنا لنداعب الكون لا لنراقص الأفاعي وهي في جحورها".

من شدة وهجه ومن شدة تأثيره، لم تستطع المؤسسة اليهودية تحطيمه، مثلما حطمت روجيه غارودي، ومثلما حاولت تحطيم ادغار موران، وقد حطمت رئيسة جامعة هارفارد كلودين غاي، لأنها رفضت أن تمنع طلابها من الصراخ في وجه مصاصي الدماء، وأن "أضع العقل الأميركي في صندوق القمامة".

أدرك ما هو الفيروس الذي يضرب رؤوس العرب للبقاء في غيبوبتهم الأبدية (بانتظار يوم القيامة). الفيروس الأميركي، أي الديموقراطية المحرمة، في ظل أنصاف الآلهة الذين يتم تصنيعهم على طريقة الهوت دوغ...

تشومسكي رأى أن غزو العراق وراء ظهور "تنظيم الدولة الاسلامية ـ داعش"، بثقافة قطع الرؤوس المشرعة على الحياة، والتي ترفض ان تبقى داخل الثلاجة. قال ان جورج دبليو بوش هو حليف أسامة بن لادن، ناهيك بأبي مصعب الزرقاوي. هذا ما أدى الى تأجيج نظرية "صدام الحضارات" التي اطلفها صمويل هانتغتون عام 1996، لتبرير السياسات الهيستيرية  والعلاقات الهيستيرية بين واشنطن و "تل أبيب". حضارة "يهودية"، وتلغي أي أثر للمسيحية.

هكذا تتحول الأمبراطورية الى غيتو توراتي. مهمته ادارة الكرة الأرضية بالعصا (ليست عصا المايسترو، عصا رعاة البقر). ثقافة "يهوذا" لا ثقافة المسيح. تشومسكي منظّر اليسار الأميركي، قال بالحاجة الى مسيح آخر يخرج فريسيي القرن من الهيكل.

حين زار غزة عام 2012، رأى أن "اسرائيل" تنتهج "تلك السياسات التي من شأنها زيادة المخاطر التي تلحق بها، "لينتهي الى أن " النتيجة الحتمية لانحطاط "اسرائيل" أخلاقياً، وعزلتها، هي النهاية". ولقد اقتربت النهاية.

صرخته في وجه "الاله الأميركي": "هؤلاء المعذبون في العالم ينتظرون متى يكون سقوطك في الهاوية"...

غياب تشومسكي غيابنا. ابنته آفيفا المؤرخة البارزة، قالت "كان الأب لكل من يحاول أن يفتح باباً من أبواب الحياة". يا سيدتي، في بلادنا ممنوعون من أن ندق على أي باب من أبواب الحياة...

الأكثر قراءة

تشومسكي... الأميركي اليهودي العربي