اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

د. منير الحايك

يقول روبرت همفري، أول المنظرين لأسلوب تيار الوعي والتداعي الحر في الكتابة السردية، إن هذا النوع من القصص يتم التركيز فيه أساسًا على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي، بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات، ولكنه يعترف بأنه من المصطلحات الخداعة، فتيار الوعي ابتُكر أو اكتُشف ليفيد علماء النفس والمحللين النفسيين، ولكنه شاع وانتشر في الروايات الحديثة، ونحن أمام رواية كانت هذه التقنية الأساس فيها، رواية "إهانة غير ضرورية" (منشورات تكوين 2023) للروائي السعودي إياد عبد الرحمن، وقبل الدخول في الحكاية وقضاياها، معتمدة على تقنية التداعي الحر في السرد، نطرح تساؤلًا، هل كانت التقنية موفَّقة، وهل ما نقلته إلينا الرواية من أحداث خطرت للشخصية وهي على شفير الموت، بكلّ تفاصيلها وتعقيداتها وتفسيراتها، كانت مقنعة؟ وهل كانت بالقوة نفسها وبالجمالية نفسها مع ما حمله النص من جديد!

هي قصة آدم، العبد المحبوب والمخصيّ، الستينيّ الذي أدّى سيلٌ أو فيضان في مدينة جدّة بعد يوم ماطر إلى انهيار أحد جدران الحمام في بيته وسقوطه عليه مباشرةً نتيجة اصطدام سيارة دفع رباعي به، وهو عالق تحته، والمياه آخذة بالارتفاع في منسوبها، وهو غير قادر على تحرير قدمه ونفسه معها، في مواجهة الغرق والموت، يسرد لنا قصته، يسترجعها لنا لنكون أكثر دقة، منذ خروجه من الحبشة وحتى هذه اللحظة. فما الذي تذكّره، وكيف مرّ شريط حياته أمامه؟

قد لا يركّز المتلقون على التقنية، لأنّ النصّ، بما حمله من قصص جديدة، ولغة سلسة وقوية، وجذالة في الأسلوب، وما حمله قهرٍ وظلم، ومن حكايات لأناسٍ قلّما فكّرنا في حكاياتهم وهمومهم ومشاعرهم، ومن عاطفة تجاه الشخصية، شخصية آدم، وشخصيات أخرى معها، فالرواية مشغولة بحرفية لروائي جادّ يعرف ما يريد! فقد بدأ بقصة "الأغوات" وأبلغنا إنّهم لم يعودوا موجودين، والقصة ستعود إلى مرحلة وجودهم في مكة والمدينة، وحكاية آدم التي تدور بين المدينتين وتستقر في جدّة، هي حكاية لم نسمع بها من قبل، والأمر فيه من الجديد والجمالية الكثير.

آدم الحبشي، الأثيوبي، الذي يُشترط بسفره فتًى أو طفلًا إلى المدينة المنورة للخدمة في المسجد النبوي أن يكون مخصيًّا، فنعرف أنّه أصبح مخصيًّا ومحبوبًا، لديه ما أصبح يشبه الفرج، لأنّ أمه أرادت له الرحيل عن الفقر والعوز والجوع، وأرادت له أن يخدم الله في بيت نبيّه في المدينة المنوّرة فيحقق نبوءتها من جهة، ويعطيها قيمة تتوخاها بين أبناء محيطها، فأقدمت على حرمانه من كل ما يمتّ إلى الرجولة بصلة. تتركه أمه، وترافقه "مونا" في مواجهة الموت والبحر، وبعدما يصل إلى "الحُديدة" في اليمن، يعيش مع الشيخ قاسم المسؤول عن تأهيله وتدريبه، ورفيقه محسون، سنوات ليصبح جاهزًا، مؤمنًا تقيًّا ورعًا، وينتقل إلى المدينة بعد انقضاء تلك السنوات، شابًّا، يقطع الصحراء وما رافقها من صعوبات، فيصل إلى المدينة، ومن هناك تبدأ القصة، قصة الآغا آدم، وبعدها قصة ترحاله مع الشيخ اسماعيل.

تدخل قصة الشيخ اسماعيل لتشكّل أساس الحبكة في الرواية، ذلك الشيخ الذي يُشترط، كغيره من الأغوات أن يكون مخصيًّا ليكون آغا، يُنجِب طفلًا، فيقوم النقيب بترحيل زوجته وطفله، وحجزه تجنّبًا للفضيحة والمساءلة، ومن هناك تبدأ رحلة آدم والشيخ، الذي قرَّر مساعدته بعدما أوصِيَ بأن يكون سجّانه، فنعرف بعدها السبب بأنه لم يكن مخصيًّا، بعد لقاء أخيه التوأم صدفة، وتنتهي قصة الشيخ بموته، قبل العثور على زوجته، أما قصة آدم، فلا تنتهي، وتبقيها الرواية عالقة بين الموت والحياة، تحت الجدار المنهار، وتحت عجلة السيارة الرباعية الدفع.

لا يمكن لمن يتعرّف الى آدم من الرواية إلّا أن يحبّه، ويتعاطف معه، ويُستفَّز من كثرة الإهانات التي قبلها من الشيخ اسماعيل خصوصًا، ولكنه كان يكمل حكايته كأن تلك الإهانة هي في أساس تشكّل شخصيته، فما لجرح بميّت إيلام، وهو الذي مات يوم أصبح محبوبًا مخصيًّا يسيل دمه على ميناء "عصَب". تعرِف، أو تعرّفك الرواية بأن إهانات الشيخ تعبير عن الحب من نوع ما، ولكنك لا تقبل هذا الأمر، فلو أنك قبلته، ستقبل الكثير مما حولك، مما يغرقك في خانات تُعَدّ من الإهانات غير المقبولة.

لم تحمل الرواية نقدًا سياسيًّا أو دينيًّا بقدر ما نقلت واقعًا كان موجودًا، وتم الاستغناء عنه، وهو حكاية الأغوات الأفارقة المخصيين وخدمة المسجد النبوي والحرم المكّي، والشروط المرتبطة بتلك الخدمة، بالقدر الذي أرادت أن تصوّره عن حكاية إنسان، هو إنسان في البَدء، ومن بعدها تأتي جميع الأمور، فهل فيها محاسبة للتاريخ، محاسبة وتسليط الضوء على موضوع العبودية المقنَّعة، عن بشرٍ ما زلنا نتعامل معهم على أنهم درجة أقل في الإنسانية؟ ممكن!؟

آدم يخبرنا بقصته ويستفيض ويطيل ويستطرد أحيانًا، فقصصه كثيرة، مع الشيخ قاسم ومع الشيخ اسماعيل ومع النقيب وغيرهم، ومع محسون ومع راجح ومع مريم وغيرهم، ومع أمه ومع مونا، غاية تلك القصص كانت ضروريّة، والقصص نفسها كانت سلسلة وجذلةً، وكانت القضايا الإنسانية واضحة، وقد نقلتها الرواية على أكمل وجه، لتشكل نصَّا روائيًّا قويًّا وجديدًا، عن الغربة والوحدة، عن الظلم والفقد والخسارة، عن تمنّي الموت عندما يصبح أكثر عدالة من الحياة. ولكن يبقى السؤال حول ما نحمّله اليوم للتداعي الحرّ من سرد قصص مسترجعة خلال دقائق معدودة، والعودة بالأزمنة عشرات السنوات، والاعتماد على الذاكرة التي، بحسب النصّ حفظت الكثير عن ظهر قبل، وينقلني الكلام إلى سؤال حول التقنية ليس إلّا، فهل فعلًا يمكن لشخص على شفير الموت، أن يتذكّر كل تلك التفاصيل عن حياته، وينقلها، بكل ما حملته من تفاصيل، منذ طفولته!

أما بعيدًا عن التقنية، فإنها رواية حول الإنسان، وحول التضحيات، وحول الدين، وحول العلاقة بالدين والخالق، فآدم هذا، الذي اعتبره أهل الحبشة طفلًا مبارَكًا، وصل إلى المدينة ليخدم بيت الله بأن يمسح بول الأطفال وينظف برازهم، هذا الـ آغا، الذي يصرّح لنا بكلّ وضوح في نهاية النص، بأنّ علاقته بالخالق لم تكن كما يتوقّعها كل من عرف الأغوات وقصصهم، تلك العلاقة تفتح أسئلة كثيرة أمام المتلقي، فيقول "أنا، ومذ أن هاجرتُ رفقة أمّي، لم أشعر يومًا بالحاجة إلى رفع رأسي نحو السماء كي أطلب شيئًا، ولم أفهم حتى طرق الناس المتفاوتة في التقرّب إلى الله، ولا سيما أن تلك الطرق كانت تناقض بعضها بعضًا".  

الأكثر قراءة

«اسرائيل» تحت صدمة أمنيّة جديدة بعد استهداف الحوثيين «تل أبيب» ماذا ينتظر المنطقة؟ وهل يشهد شهرا آب وايلول تصعيداً عسكرياً على كلّ الجبهات؟ المقاومة تقصف لأول مرّة 3 مُستعمرات جديدة