اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لا يزال اندلاع حرب إقليمية شاملة الى ما لا يُحمد عقباه، في حال تطوّرت الأمور في غزّة والضفّة الغربية، كما في "جبهات الإسناد" أمراً وارداً، رغم التهدئة بعد ردّ حزب الله على اغتيال القيادي البارز في الحزب فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت. إلّا أنّ شيئاً ليس مضموناً مع العدو "الإسرائيلي" الذي يُراوغ ويُواصل تهديداته، ويُنفّذ أجندات أميركية موضوعة منذ عقود. ولكن ما هو المقصود بـ "حرب إقليمية شاملة"؟ وما هو سقف العمليات العسكرية التي يتمّ التخطيط لها في هذه الحرب؟ وأين يُفترض أن يكون مسرح هذه العمليات؟
يقول السفير الدكتور بسّام النعماني في حديث لـ "الديار" إنّ “كل الدول العظمى تتبنى مقاربات إستراتيجية لكيفية مواجهة الطوارئ العسكرية والأهداف المحددة التي يجب تأمينها في حال حصول الحرب الإقليمية الواسعة في الشرق الأوسط. ولأنّ مثل هذه الخطط الآنية تكون حالياً في نطاقها "السري" الحساس، فإنه يمكن استنباط مثل هذه الخطط عن طريق البحث في أرشيف هذه الدول الكبرى عن وثائق وخطط وخرائط قديمة، والتي قررت هي الإعلان والكشف عنها بعد مرور نصف قرن من الزمن وتوفيرها للباحثين. وما يعجل في نشر مثل هذه الوثائق هو التحوّل من التداول بالصور الفوتوغرافية والورقية إلى التكنولوجيا الرقمية والمسح بواسطة الكومبيوتر، وحفظ كمية وافرة من المعلومات فيها لم يكن ممكناً في السابق. فأصبحت مخازن الوثائق والخرائط ذات الحساسية العالية والسرية يقوم القيمون عليها بمسحها، ومن ثم نقل الوثائق الورقية إلى مخازن بعيدة عن أعين وأيادي الجماهير. ولم تعد توفرها للمراجعين الذين يمكنهم، بدلاً من ذلك، إستخراجها ودراستها على الكومبيوتر والانترنت مع كل تفاصيلها الدقيقة. ولا داعي بالتالي إلى تداول هذه الوثائق والخرائط باليد المجرّدة".

ويكشف بالتالي أنّ هذه الخرائط الدقيقة والحسّاسة، هي عبارة عن مجموعة خرائط رسمتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في العام 1959، ووفرتها للباحثين في السنة الفائتة، أي بعد مرور 65 عاماً على إصدارها. وقد أسمت هذه السلسلة وكالة الاستخبارات الأميركية (الـ سي.آي. إي.): "المناطق الاستراتيجية ومقاربتها"، أو

Strategic Areas and Approaches
وهي خرائط للكثير من الدول المختلفة حول العالم. ومن بينها خريطة للجزيرة العربية، تُظهر المقاربة الأميركية الاستراتيجية للمنطقة.

أمّا ماذا يمكن الاستنتاج من هذه الرؤية الأميركية الاستراتيجية للبحر الأحمر ودول الخليج في هذه الخريطة، فيشرح السفير النعماني أنّه يمكن أن نستنتج جملة أمور:

أولاً، أن الولايات المتحدة ترى أن الأهمية القصوى استراتيجياً هي تأمين ثلاث مناطق: منطقتا إنتاج الطاقة والبترول في منطقة عمليات أولى أسمتها "قطاع البصرة-الكويت" والتي ضمت إليها الأهواز وعبادان الإيرانيتين. وقد تم تلوين هذه المنطقة باللون الأخضر (كما يظهر على الخريطة المرفقة). ومنطقة عمليات ثانية في إنتاج الطاقة والبترول أسمتها "(الجزيرة) العربية الشرقية" أي عسير في السعودية ومملكة البحرين، وقد جرى تلوينها باللون الأخضر أيضاً. ويمكننا، مع الاكتشافات النفطية والغازية في قطر والإمارات العربية في فترة السبعينات من القرن الماضي، أن نتخيل بأن هذه المنطقة الخضراء ذات الأهمية الإستراتيجية القصوى للولايات المتحدة، قد امتدت أيضاً لتشملهما. وتوجد أيضاً منطقة "خضراء" ثالثة يجت تأمينها وهي الشريط الممتد من باب المندب إلى ميناء عدن في اليمن.

ثانيا، أمّا كيفية تأمين هاتين المنطقتين الخضراوين المنتجتين للنفط، فتوضح الخريطة، على ما أضاف، أن المنطقة "الشرقية" يكون تأمينها عن طريق الأسطول البحري (الأسطول الخامس الأميركي) الذي ينطلق من المحيط الهندي والذي يقوم بإنزال قوات في مسقط ورأس الخيمة، ويواصل تقدمه إلى المنامة، ورأس التنورة، والقطيف، وينتهي إلى كل من الكويت وبندر عباس. أما التقدم إلى منطقة العمليات الأولى "البصرة-الكويت" فيكون عن طريق البر من بغداد وكربلاء، والأهواز، على أن تلتقي المحاور البرية الثلاثة في الكويت. أما المنطقة الخضراء الثالثة بين باب مندب وعدن، فيتم تأمينها أيضاً عن طريق الأسطول الخامس الأميركي المتمركز في المحيط الهندي الذي يخصص بإنزال في عدن، على أن يعاونه الأسطول السادس القادم من البحر المتوسط والذي من المفترض أنه قد اجتاز قناة السويس. ومن مهام الأخير، تحقيق إنزال في جدة وفي الحديدة، وفي باب المندب. وتبين الخريطة بأن القوات التي نزلت في الحديدة يمكنها التوجه إلى عدن عن طريق البر وتأمينها من الخلف. كما تتوجه قوة أخرى من الحديدة شرقاً إلى صنعاء وشمالاً في اتجاه جدة. كما تشير الخريطة إلى أربعة طرق برية فرعية إلى داخل المملكة العربية السعودية، ولكنها طويلة ومتعرجة وتمتد لآلاف الكيلومترات إنطلاقاً من العقبة، ومعان، وعمان/دمشق، والنجف.

وأشار النعماني الى أنّه قبل تناول أخطر ما في هذه الخريطة الصادرة عن وكالة الاستخبارات الأميركية في العام 1959، ألا وهو النزول في ميناء جدة وتأمين ما يسمى منطقة عمليات "جدة- مكة المكرمة"، لا بد من الإحاطة بأن مثل هذه الخطط العسكرية وُضعت إبان احتدام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأن كليهما خلال فترة الخمسينات وأوائل الستينات (أي إلى وقت إندلاع أزمة صواريخ كوبا في العام 1962)، كانا يأخذان في حساباتهما جدياً إندلاع حرب عالمية بينهما، وغزو حلف وارسو لأوروبا الغربية، وتبادل للضربات النووية للعواصم والمدن الكبرى. وأنه كما أن الولايات المتحدة كانت تخطط في حساباتها بأن منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تكون ميداناً للمواجهة العسكرية بينهما نظراً لوجود النفط، فإن الاتحاد السوفياتي أيضاً كانت له خططاً عسكرية لإقتحام إيران والعراق والوصول إلى "المياه الدافئة" في الخليج وتخطي تركيا وسوريا للوصول إلى البحر المتوسط.

وبالعودة إلى منطقة عمليات "جدة- مكة المكرمة"، على ما تابع، فقد جرى تدويرها واستثناؤها بأنه يجب "تجنبها" وعدم الدخول فيها لأنها "مناطق مقدسة". لكن الخريطة تشير بشكل واضح أنّ إنزالاً بحرياً سيحصل في ميناء جدة. ولكن المدينة المنورة لم يتم استثناؤها وهي تقع في محور الممرات العسكرية للجيش الأميركي. وهذا يدل على أن مهندسي وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية في العام 1959 الذين رسموا هذه الخريطة، لم يكن لديهم الإلمام والوعي الكافيين بخطورة الممرات التي رسموها ولمقارباتهم الاستراتيجية للحرب في الجزيرة العربية في حال إندلاع حرب عالمية أو إقليمية شاملة. فهل هذا الجهل والإهمال ما زال سائداً حتى اليوم؟ وهل مثل هذه الخرائط لا يزال يصلح حتى يومنا هذا؟

 

الأكثر قراءة

لا أميركا العظمى ولا "إسرائيل" العظمى