اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


الحد الأدنى من المنطق السياسي، المنطق الوطني، أن ندرك ما هي "اسرائيل"، وكيف تنظر الى لبنان، ان على المستوى الايديولوجي أو على المستوى الاستراتيجي. هنا يوجد من يقول لك ان المنطق في أن نرى الأشياء، ولو بالحد الأدنى من الواقعية. التداخل العضوي بين أميركا و"اسرائيل". استحالة تحقيق التوازن العسكري مع "اسرائيل"، مع معرفتنا بالتأثير الأخطبوطي للمؤسسة اليهودية في القوى العظمى.

استطراداً، ابرام الصلح معها على غرار ما فعلته مصر، وهي كبرى الدول العربية، وعلى غرار الأردن النصف أردني والنصف فلسطيني، وعلى غرار منظمة التحرير الفلسطينية التي أضفت عليها القمة العربية في الرباط (1974 ) صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

واقعاً أيضاً أن العرب، كل العرب، تخلوا عن "حكاية" الصراع مع "اسرائيل". بعضهم أخذ بالتطبيع، وبالبعض الآخر ماض في الطريق الى التطبيع. في هذه الحال، لماذا يفترض بلبنان، وقد يكون الحلقة الأضعف في المنظومة العربية، أن يبقى الوحيد في الحلبة لتنهال عليه الضربات من كل حدب وصوب، وهذا ما أثبتته للملأ الحرب الأخيرة؟

لكن المنطق، الحد الأعلى من المنطق، لا همجية تعلو على الهمجية "الاسرائيلية" حين تقوم طائرات شاركت في عملية الاغتيال بالتحليق فوق مكان التشييع. عسكريون وأمنيون "اسرائيليون" سابقون وصفوا ذلك بـ"المسخرة". أركان السلطة رأوا في الواقعة التي واكبتها  غارات على مناطق مختلفة من البلاد، تأكيداً على "أننا اليد العليا في لبنان"، أو "نحن أصحاب البيت" أي اصحاب لبنان، والى حد الدعوة الى استئناف الحرب، أي استئناف القتل ـ الذي لم يتوقف أساساً ـ ما دام حزب الله بهذه القوة على الأرض.

هالنا ما رأيناه على مواقع التواصل في لبنان، وحيث ظهرت بوضوح نظرية الانكليزي توماس هوبز "الجميع ذئاب الجميع"  في أكثر صورها بشاعة. هل نجح ملوك الطوائف الى هذا الحد في جعلنا أعداء بعضنا البعض؟ أيضاً على هذه الدرجة من الانحطاط الحضاري والانساني. محلل سياسي يعتبر بارزاً بلغة هذه الأيام، وهي اللغة العرجاء، رأى في مشهد التشييع الوجه، أو الاتجاه الديني لحزب الله ، اعتبر أن حاضنة الحزب ظاهرة خطيرة، ولا مجال للتعايش معها.

لا ندري ما هو الغرائبي هنا، وما هو الخطير هنا، كما لو أن ملابس الحداد ليست تقليداً عالمياً، وكما لو أن الطوائف اللبنانية الأخرى لا تقيم الطقوس الذي فيها ما يدخل في البنية العقائدية، وما هو شكلي، فرضته الأيام، أو فرضه الفقهاء؟ أليس التنوع الأساس في "الظاهرة اللبنانية"، وفي التميز اللبناني، كما لو أن صاحبنا لم يقرأ ما قاله الفيلسوف الكاثوليكي غابرييل مارسيل من أن "فلسفة الغيتو هي فلسفة المقبرة، وأن فلسفة الانجيل هي أن تنفتح الأرواح على الأرواح".

ما يعنينا مهابة التشييع، حيث التقاطع الفذ بين لحظة البكاء ولحظة الكبرياء. هذا رجل غاب من أجل لبنان، وكل لبنان. انه القائد الذي اقتلع بالدم الأقدام العمياء من ترابنا. ايضاً ما يعنينا كلام الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، الذي فتح أبواباً كثيرة أمام سائر القوى الأخرى، كسبيل لاعادة الثقة بين المكونات اللبنانية، وللحوار، وكنا أول من توقع أن يدعو الرئيس جوزف عون الى حوار وطني قد يفضي الى الجمهورية الثالثة، بعدما أثبتت التجربة أن مفهوم التوازن بين الطوائف، يعني مفهوم اللاتوازن بين الطوائف والدولة.

قال الشيخ قاسم بلبنان الوطن النهائي لأبنائه، و "نحن من أبنائه"، وقال بالالتزام بالطائف، نافياً ضمناً ما تشيعه "غربان الشاشات" حول الهيمنة أو حول المثالثة. من السيد حسن نصرالله شخصياً سمعت ذلك الكلام الرائع عن المسيحيين بالدور، وبالمدى الحضاري، وبالمدى الانساني، ونشرت ذلك في حينه. أيضاً كلام الأمين العام عن الانضواء تحت مظلة الدولة، وعن الدور الكبير للجيش في الدفاع عن أرض لبنان، وفي التصدي لكل اعتداء. من هنا، ومن هذه النقطة بالذات، يتبلور الاطار العملي والعملاني للاستراتيحية الدفاعية، التي ستكون حتماً من أولويات حوار القصر.

هكذا فهمنا التشييع من خلال كلام الشيخ، وفهمنا كلام الشيخ من خلال التشييع، ليتكامل المشهد الوطني في "الأحد الكبير"، وحيث ظهر جلياً التلازم بين مفهوم الدولة ومفهوم المقاومة، اذا نظرنا بواقعية الى المسار العام للتطورات في المنطقة، وحيث من الضروري أن ننتظر من بنيامين نتنياهو وصحبه ما هو اشد فظاعة بكثير، بعدما تناهى الينا من وزير الشؤون الاستراتيجية رون دورمر أن عملية التغيير (تغيير الشرق الأوسط) لا تزال في بداياتها.

بذلك التصدع الكارثي، نواجه الجنون "الاسرائيلي" (دون أن نتطرق الى الجنون الأميركي الذي يتحدث عنه الأميركيون أنفسهم). ما هو الأكثر فظاعة ضد لبنان؟ التلال الخمس هي كل لبنان الذي، بالتفاعل بين الأديان وبين الثقافات، هو النموذج النقيض، والذي لا مكان له في الثقافة "الاسرائيلية"، التي لم تتوقف قط عن صناعة الدم وصناعة الكراهية...

واذا كان "الاسرائيلي" يرى في نفسه "الكائن البشري العابر للأزمنة وللأمكنة"، ماذا ينقص اللبناني ليكون كذلك، بقطع أي يد أخرى تحاول أن تكون اليد العليا في لبنان، الذي لا صاحب له غير اللبنانيين ؟ لعل حوار القصر يعيدنا الى وعينا...

 

الأكثر قراءة

اختتام مراسم الإستفتاء الشعبي حول المقاومة... والثقة محسومة للحكومة «إسرائيل» تبدأ التقسيم في سوريا... وواشنطن «تفاتح» مسؤولين بالتطبيع