اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


كنا نود أن نسأل الله، وقد بات لزاماً علينا أن نسأله، "هل حقاً أنك تخليت عن هذه المنطقة التي اخترتها منفى لآدم، وبعثت اليها بكل أنبيائك، لدونالد ترامب الذي لم يعد يعوزه الا أن يقول... أنا الله؟". الآن، ونحن نرى ما يحدث في غزة، وحتى في لبنان، لا بد من أن نسأله ما اذا كان قد ترك المنطقة لبنيامين نتنياهو، بعدما أعلن، أمام الملأ، أنه ينفذ أوامر "رب الجنود" الذي هو الله.

تماماً مثلما قال الخبير الاستراتيجي الأميركي ماكس مانوارينغ، في محاضرة له في تل أبيب، عام 2018، أمام عدد من كبار الضباط الأطلسيين والاسرائيليين، العرب الآن، وفي ظل الانهاك والتآكل البطيء، "قطعان هائمة" في حضرة قائد القيادة الأميركية ألوسطى الجنرال مايكل كوريلا. في هذه الحالة، لماذا تمتلئ المساجد، وقد ازداد عددها، على نحو مذهل، بالمصلين، ولماذا تلعلع الأدعية عبر مكبرات الصوت، ولماذا ترسم اللحى وفق مواصفات محددة، بعدما ذهبنا بعيداً في الدمج بين الطقوس الوثنية، ومقتضيات الشريعة؟

ما يحدث في غزة (وهكذا يلطمنا التاريخ على وجوهنا) المثال. كم كانت مساحة معسكر أوشويتز، وكم بقيت أفران الغاز هناك. أمامنا، كل غزة (364 كيلومتراً,وعلى مدى يتعدى العام والنصف) وقد تحولت الى هولوكوست، أي الى محرقة. بعد تدمير المنازل، تدمير الخيم، ليتبعثر الناس في العراء. لا ندري لماذا يغض الله الطرف عن أولئك الذين يبتهلون اليه، بجثث أطفالهم، لحمايتهم من ذلك النوع الآخر من الطيور الأبابيل. غزة، أمام عيون العرب وأمام عيون العالم (لعالم كخديعة كبرى وكفضيحة كبرى)، وأمام عيون الملائكة، مقبرة. مقبرة للأحياء أكثر منها مقبرة للأموات.

عبر الأزمنة شهدنا كل أنواع الجبابرة، وكل أنواع البرابرة. غريب أن الكتب المقدسة توقفت هناك. هل تتصورون أن دونالد ترامب، أو بنيامين نتنياهو، أقل هولاً من الأسماء التي ذكرت في تلك الكتب. الغريب أكثر أن يتوقف "مسلسل الأنبياء" عند نفطة محددة، وان كان لافتاً أن أغلب ما نشهده من حروب، ومن كراهيات، ناتج عن تفسير فقهائنا، بالعيون العرجاء، لما قاله الله، ولما قال رسله.

كنا نخشى ترحيل الفلسطينيين من القدس بعدما قيل لنا أن حجارة الأقصى أكثر قداسة من أنين الأطفال، ومن غزة لأن عظام الآباء هناك. الآن لا نعبأ بالرحيل، وكيف نعبأ اذا كنا في الجحيم (وقد صدق ترامب بأن أرضنا لم تعد تصلح لنا). بقايا بشرية، بحكام كثيرون منهم على شاكلة شهريار أو على شاكلة حمالة الحطب.

لعلنا وصلنا الى تلك اللحظة التي نحاول أن نثبت فيها حتى لأنفسنا أننا كائنات بشرية. لاحظتم كيف أننا ترعرعنا على تقديس علمائنا، الأكثر وعياً بنا ومنا، وعلى تقديس الحجارة لتكثيف الوجود الالهي في داخلنا، هكذا بقينا على اجترارنا للغة، وهكذا بقينا على اجترارنا للغيب. التكنولوجيا التي دخلت حتى في تشكيلنا العصبي حرام، ليصح فينا قول وليم كريستول "أحافير اثرية لا تصلح حتى لأقبية المتاحف".

هكذا لا نجد سوى الدعاء لمواجهة ذلك التواطؤ الدموي بين الرئيس الأميركي، ورئيس الحكومة الاسرائيلية. ولكن كل ما يفعله الرجلان أنهما يقومان بدفننا تحت الأنقاض ـ بما في ذلك الأنقاض الديبلوماسية. ما المشكلة اذا ما دفنا تحت التراب ما دمنا، ومنذ ألف عام، قد دفنا تحت الزمن؟ لا جدوى من أنينا، ولا جدوى من صراخنا. "رب الجنود" لليهود فقط. بعد فوات الأوان اكتشفنا أن الكرة الأرضية تدور من أجلهم، وبعدما خدعنا فقهاؤنا بأنها تدور من أجلنا. حتى دورتنا الدموية، حيال الذي يجري، توقفت عن الدوران.

مرة أخرى، رجاء أن تقرأوا التوراة، وحيث الله يبذل قصارى جهده لارضائهم، ولا يفعلون به ما فعله يعقوب به. هناك، لمن يعي بالنص، لسوف نرى أن مأساة الله مع اليهود اشد هولاً بكثير من مأساتنا معهم.

في مقالة سابقة، كنا قد استعدنا بقول الفيلسوف الهولندي اليهودي، في القرن السابع عشر، باروخ سبينوزا "لم أعثر على الله في الكتب المقدسة". حتماً يقصد التوراة بالذات. ألبرت اينشتاين قال "حين أقف أمام المرآة أزداد يقيناً بأنني ككائن بشري، النص الالهي. المعجزة الالهية".

الحاخامات، وثمة حاخامات في كل الديانات المنزلة، وغير المنزلة، كرسوا أدمغتهم، وهي أدمغة العصر الحجري، لاقفال الرؤس بالشمع الأحمر. في ضوء التجربة الأخيرة، النكبة الأخيرة، اكتشفنا أين نحن في دينامية الأزمنة، بعدما أرتضينا، بالعصا ألا نتساوى في الحقوق حتى مع الماعز. من قرون غابرة سقط التاريخ من ايدينا وسقط الزمن. نحن الذين سقطنا..

قرن آخر من التيه ؟ لا نتصور أن تلك السلسلة الهائلة من الصدمات قد غيرت فينا شيئاً، حتى شكل البكاء. الشرق الأوسط وقد تحوّل الى زنزانة، الى محرقة، للعرب. حلم كل منا، وقد أصبحنا داخل الدوامة، بين صراع الأمبراطوريات، وصراع القبائل، وصراع الطوائف، أن يجد مرقد دجاجة لا مرقد عنزة، في اي مرفأ، أو في اي رصيف في العالم.

بدأنا العرب الرحّل ، وننتهي العرب الرحّل. لا التاريخ بحاجة الينا، ولا الزمن. خيارنا الوحيد، وكما قال أدونيس، أن ننقرض. هل نحن موجودون حقاً لكي ننقرض!"...

الأكثر قراءة

أيّ رؤوس تسقط في لبنان؟