د. ماجد جابر
في زمنٍ كنا نفتخر فيه بقدرة العقل على التحليل وربط المعاني، دخلنا مرحلة جديدة وخطيرة: الدماغ المؤجَّر. عقل لا يفكّر بل يُدار، لا يتفاعل بل يمرّ على العالم كما يُمرَّر إصبع على شاشة. بدأ الإنسان يدخل طواعية في سبات اصطناعي، تفرضه الآلة بالإغواء لا بالقوة. لم نعد نقرأ لنفهم، بل لننقل. ولا نكتب لنعبّر، بل لإرضاء الخوارزميات. نستهلك بدل أن نحلّل، نُقلّد بدل أن نبدع.
أكتب هذه السطور من واقع أعيشه يوميًا. لم تعد الأخطاء ما يلفتني، بل غياب المحاولة. في أحد الواجبات المنزليّة، طلبت من طلابي شرح قانون نيوتن الأول. استلمت إجابة طالبٍ استخدم مفردات دقيقة، فدهشت. سألته: "هل فهمت ما كتبت؟" أجاب ببساطة: "مش كتير… استخدمت الذكاء الاصطناعي". سلّم الواجب المطلوب دون أن يعرف مضمونه أو يشعر أنه أخطأ. طالب آخر سلّمني مخطط رسالة ماجيستير مصمّما كليّا بالذكاء الاصطناعي، بدءًا من العنوان مرورُا بصياغة الإشكالية والفرضيات وتصميم هيكل الدراسة، وانتهاء بلائحة المراجع، ودون أن يعطي نفسه فرصة للتفكير، أو حتى الإحساس بمشكلة واقعية يريد معالجتها، أو التأكّد من صحة المراجع المستخدمة.
المشهد يتكرّر في المجتمع: زوجان يحتكمان إلى الآلة لحسم نقاش تجنّبًا لفهم بعضهما. امرأة تستشير مساعدها الذكي في كل قرار، لأنها اعتادت أن تسلّم حاستها وخياراتها لآلة تُقرّر عنها. مراهق يطلب كتابة رسالة حبّ لا يشعر بها. معلّم يُحضّر درسه كاملًا دون بصمة خاصة. العقول بدأت تتقاعد، لا تُستثمر بل تُستبدل.
لا أرى في الذكاء الاصطناعي تهديدًا في حد ذاته، بل فرصة عظيمة... إن بقي في مكانه: أداة تعين، لا عقلًا بديلًا. أستخدمه حين أحتاج، لا حين أهرب. أستعين به لتوسيع أفقي، لا لإلغاء ذاتي. أوظّفه في التعليم والبحث لإحياء الفكرة، لا دفن التفكير. لأني أدرك تمًاما أنّه لا يُقصينا… إلا حين نُقصي أنفسنا ونتخلّى طوعًا عن حقنا في التفكير.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم ليس: "هل الذكاء الاصطناعي يهدّد وظائفنا؟" بل: "هل بدأ يؤجّر عقولنا ويعطّل ملكاتنا الفكرية؟"
لا يمكن فهم الإفراط في استخدام الذكاء الاصطناعي دون التوقف عند النظريات التّي تناولت الإغراق في الاعتماد على التكنولوجيا. في كتابه The Shallows، حذّر Nicholas Carr) ) من أنّ الاستخدام المكثّف للإنترنت والاعتماد على المصادر الرقمية كمخزن خارجي للمعلومات يُعيد تشكيل أدمغتنا ، ويُضعف الذاكرة، ويؤدي إلى سطحية معرفية. أما (John Sweller)، مطّور"نظرية التحميل المعرفي"، فرأى أن الذكاء الاصطناعي يُغرق الدماغ بمعلومات جاهزة تتجاوز قدرته، فتُعيق الفهم والتحليل وتُراكم التشبّع الذهني. وسلّط (Daniel Kahneman) في كتابه Thinking, Fast and Slow الضوء على تراجع "نظام التفكير البطيء" القائم على التأمل والتحليل لصالح "التفكير السريع التلقائي" المدفوع بالذكاء الاصطناعي، مما يُضعف القرارات الواعية. ولم يكن مارتون وسالجو (Marton & Säljö) أقل تحذيرًا، إذ أكّدا أن بيئات التعلّم الرقمية تُكرّس التعلّم السطحي، وتُنتج طلابًا يحفظون دون فهم، ويستهلكون دون تحليل. وقدّما تمييزًا مبكرًا بين التعلّم العميق، القائم على الربط والاستنتاج، والتعلّم السطحي الذي يركّز على الحفظ الآلي والاستذكار.
يتقاطع هذا مع ما أشار إليه (Herbert Simon) حين لفت إلى أن وفرة المعلومات لا تعني وفرة المعرفة، بل قد تؤدي إلى "انهيار الانتباه" ما لم يُفلتر المحتوى ويُوجّه نحو مهام عقلية واضحة. وتدعم (Maryanne Wolf) هذه الرؤية من منظور علم الأعصاب، مؤكدة أن القراءة الرقمية تُعيد تشكيل الدوائر العصبية في الدماغ، وتُفضي إلى اختفاء مسارات التفكير التأملي، وتُبرمج الدماغ على تفضيل السرعة على التحليل. أما (Neil Postman)، فكان سبّاقًا في التحذير من استسلام الثقافة للتكنولوجيا، مشيرًا إلى أن الإنسان حين يُفرّط بعقله لصالح الآلة، يفقد تدريجيًا المعنى، والهوية.
وتتلاقى هذه التحليلات مع مفهوم "الكسل المعرفي" كما وصفه (Tad Brunyé)، حين بيّنت الدراسات أن الإنسان المعاصر يفضّل الحلول السريعة الجاهزة، ويتجنّب بذل الجهد في التحقّق أو التفكير النقدي. وقد أثبتت التجارب أن من يعتمدون على الأدوات الذكية يتّخذون قرارات أكثر سطحية وأقل عمقًا، لأنهم درّبوا أنفسهم – دون وعي – على تقليص تشغيل عقولهم إلى الحد الأدنى.
لم تَعُد التحذيرات من الإفراط في استخدام الذكاء الاصطناعي حكرًا على المنظّرين، بل وجدت صداها في دراسات وتجارب واقعية وثّقتها منصات علميّة وصحفيّة. ففي كانون الثاني 2025، نشرت (Phys.org) دراسة تربط الاستخدام المفرط للذكاء الاصطناعي بتآكل مهارات التفكير النقدي، بينما روى كاتب في (Wall Street Journal) كيف جعله الاعتماد عليه في المهام اليومية "أقل ذكاءً"، بعد تراجع قدراته على الفهم واتخاذ القرار. وفي دراسة لجامعة (Cornell)، ظهر أن الكتابة بمساعدة الذكاء الاصطناعي تُحدث تحيّزات فكرية غير واعية، وتُعيد تشكيل الرأي دون مقاومة معرفية.
وفي السياق ذاته، وضمن مقالة على موقع Forbes، بعنوان (Human Borgs: How Artificial Intelligence
Can Kill Creativity And Make Us Dumber) "البشر البورغ: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقتل الإبداع ويجعلنا أقل ذكاءً"، يسلّط نيلسون غرانادوس (Nelson Granados) الضوء على المخاطر الكامنة وراء الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في البيئات الإبداعية. يستند إلى دراسة سلوكية، أظهرت أن البشر غالبًا ما يُخطئون في تقييم متى يجب تفويض القرار إلى الذكاء الاصطناعي. قد يتراجع أداء فريق مدعوم بالذكاء الاصطناعي مقارنة بالبشري إذا غاب الوعي النقدي في استخدامه. أما النتيجة الأبعد، فهي ما يُعرف بـ الإنسان كـ"بورغ" (Human Borgs) استعارة من الخيال العلمي، تصف فقدان الإنسان لتنوعه المعرفي والاجتماعي بسبب تقليده المستمر لأدوات الذكاء الاصطناعي، ويقوّض ما يُعرف بـ "حكمة الجماهير"، أي ذكاء الجماعة الناتج من التفاعل بين عقول مختلفة. ويضيف (Granados) تحذيرًا من تأثير الذكاء الاصطناعي في تشكيل" غرف الصدى" على منصات مثل فيسبوك وتوتير، حيث تُعرض على المستخدم محتويات تُكرّس قناعاته دون تحدٍّ، مما يؤدي إلى انغلاق فكري. ويختم المقال بدعوة إلى بناء "ثقافة رقميّة لأنّ " الذكاء الاصطناعي لا يجعلنا أكثر غباءً لأنه أذكى منا، بل لأننا نسمح له بأن يُفكّر بدلاً منّا."
وفي ضوء ما تقدّمه ((Celia Ford في مقالها في موقع (Vox) بعنوان " (The case for using your brain — even if AI can think for you) " الحجة لاستخدام دماغك – حتى لو كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على التفكير نيابةً عنك"، تتضح أبعاد جديدة لمخاطر الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، خصوصًا من منظور علم الأعصاب المعرفي. تستند (Ford) إلى نظرية "العقل المتمدد"، والتي ترى أن العقل لا يقتصر على الدماغ، بل يمتد إلى الأدوات والتقنيات المحيطة بنا. ووفق هذا التصوّر، فإن الهواتف الذكية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لا تُستخدم فقط، بل تصبح امتدادًا وظيفيًا للعقل، تتحكّم في قراراته وتُضعف الحاجة إلى التذكّر والتحليل والإدراك الذاتي . فقد كشفت دراسة في جامعة (Carnegie Mellon) أن الاعتماد الزائد على أدوات الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى ما سُمي "عقولًا ضامرة وغير مستعدة"، تفقد تدريجيًا القدرة على التفكير النقدي وحلّ المشكلات. يُعرف هذا بـ" تفريغ النيات الذهنية" إلى أدوات خارجية، مما يُضعف النشاط في مناطق التخطيط واتخاذ القرار داخل الدماغ.
إنّ ما نعيشه اليوم ليس تحوّلًا تقنيًا فحسب، بل تحوّل في ماهية التفكير. فالعقل لم يَعُد يُدرَّب، بل يُستبدَل تدريجيًا بأدوات تُفكّر مكانه، وتُقرّر عنه، وتمنحه وهْم الاكتفاء المعرفي. لسنا ضدّ الذكاء الاصطناعي، بل ضدّ التفريط بالعقل في حضرته. ما ينبغي أن نخافه ليس أن تتفوق الآلة، بل أن نتوقّف نحن عن المحاولة.
في هذا السياق، يبرز الدور التربوي لا كخطة تعليمية، بل كمعركة وجودية لحماية ما تبقّى من جوهر الإنسان. المطلوب اليوم ليس إدخال الذكاء الاصطناعي إلى المدارس فحسب، بل تعليم التلامذة كيف يتعاملون معه دون أن يفقدوا ذواتهم. أن نعلّمهم أن يسألوا لا أن يُملى عليهم، أن يتحققوا لا أن ينسخوا، أن يُعيدوا الاعتبار إلى الكتابة اليدوية، التأمل، الخطأ، والمحاولة.
لعلّ المهمة التربوية الأعمق لا تكمن في تحديث المناهج، بل في ترسيخ مناعة فكرية ضدّ الكسل المعرفي، وإعادة تعريف النجاح لا كسرعة في الوصول، بل كقدرة على الفهم، والتمييز، والتأنّي. آن الأوان لأن تتحرّك التربية من الدفاع إلى البناء، فالذكاء الاصطناعي لا يهدّد التعليم... بل يكشف هشاشته إن لم يُبنَ على أسس إنسانية صلبة. والقرار بيدنا: أن نُنتِج أجيالًا تفكّر، لا تنسخ. تُحلّل، لا تتّبع. تُبدع، لا تُقلّد.
لكن هذا الدور لا يُناط بالمدرسة وحدها، لأن التحدّي لم يعُد تربويًا فقط، بل حضاريًا ومجتمعيًا. فالتوعية بمخاطر الإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يجب أن تمتد إلى مختلف دوائر المجتمع: في البيت، وفي الإعلام والثقافة؛ وفي بيئات العمل؛ وفي الجامعات ومراكز البحث؛ وحتى في المنابر الدينية، حيث يمكن مساءلة المفاهيم الأخلاقية في ضوء عالم تُحدّده خوارزميات لا تدرك المعنى.
إن معركة الذكاء الاصطناعي لا تُخاض في مختبرات البرمجة فقط، بل في سؤال: من نكون حين لا نعود نفكّر؟ الجواب لن يكتبه الذكاء الاصطناعي... بل نحن، إن امتلكنا الشجاعة لنفكّر. الذكاء الاصطناعي ليس عدونا، بل مرآتنا. السؤال الحقيقي: هل ما زلنا نملك الشجاعة لننظر إلى مرآتنا... قبل أن نُطمس فيها؟
يتم قراءة الآن
-
الرئيس عون يقطع الطريق على الفتنة: السلاح بالحوار ولا مهل اجتماعات مكثفة ومفصلية للوفد اللبناني في واشنطن الخميس التشريعي... محاولة تعطيل الانتخابات البلدية لن تمر
-
شبح نتنياهو بين ترامب وخامنئي
-
نتنياهو ولكمات ترامب ما لم يُنشر بعد: كيف تلقّى نتنياهو إعلان التفاوض مع إيران؟
-
رئيس السلطة الفلسطينيّة في سورية بعد اجتثاث حلفاء إيران منها اتفق مع الشرع على استعاة مكاتب حركة "فتح" والمنظمة الممثل الشرعي
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
22:43
اعلام العدو: تم إسقاط طائرة بدون طيار مجهولة كانت تحلّق فوق موكب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مساء اليوم وهو في طريقه لحفل بذكرى "الهولوكوست"
-
22:20
الخارجية البريطانية: محادثات لندن أحرزت تقدمًا لتوحيد الرؤى بشأن أوكرانيا
-
22:11
مسؤول بالجبهة الديمقراطية للجزيرة: دعونا لحضور الكل الفلسطيني بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي وهو ما لم يحدث
-
22:08
الخارجية البريطانية: المشاركون في محادثات لندن ملتزمون بدعم مساعي ترمب لوقف الحرب
-
22:00
البيت الأبيض: الرئيس ترمب لم يطلب من أوكرانيا الإقرار بشيء متعلق بجزيرة القرم ولم يطلب أحد منهم ذلك
-
21:58
الغارديان عن مصادر: بوتين أشار بالفعل إلى إمكانية القبول بتجميد خطوط المواجهة مقابل التنازلات الأميركية
