اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

"عطلة في حيّ النور" رواية الحبيب السالمي الجديدة (دار الآداب 2023)، الروائي التونسي الذي تقدّم الدار روايته على غلافها الخلفي فتقول عنها "رواية تقتفي بذكاء ورهافة التحوّلات التي شهدها البلد في الأعوام الأخيرة كاشفة عن دلالاتها وتأثيراتها في النفوس وامتداداتها في مجتمع هشّ متربكٍ تخترقه مفاهيم وقيم متناقضة"، فهل كان النصّ فعلًا كما ادّعى هذا التقديم!

تبدأ الرواية بوصول "عادل" التونسي الفرنسي إلى حيّ النور ليقضي عطلةً هناك، ويخبرنا أنه اختار المكان نفسه الذي قصده منذ اثني عشر عامًا، وهو الذي اعتاد أن يزور تونس بين العام والآخر وحيدًا من دون زوجته "صوفي" الفرنسية، وإن تأخّره هذه المرة كان بسبب الثورة، وفور وصوله يلتقي بعبد الله حارس العمارة، الذي ما زال هو نفسه، يعيش مع زوجته مريم وابنهما المراهق وليد، عبدالله ومريم اللذين يخبرنا عادل بأن علاقة ربطته بهما وستستمر خلال هذه العطلة كما سنقرأ.

تتعدد الشخصيات التي سيلتقي بها البطل، الخمسيني أو الستيني، ولأنّ الرواية تبدأ مع استقبال القطط له حيث أكياس القمامة أمام مدخل المجمّع السكني الذي اختلف نحو الأسوأ عما كان عليه من قبل، أي قبل الثورة، تظنّ أنّه سيبني على هذه الرمزية أحداثًا ما، ولكن لا تذهب بك الرواية إلى أحداث أخرى، ولا تعود إلى الأمر إلّا في نهايتها، فتنتهي الصفحة الأخيرة بأنّ البطل يطل من شقته قبل ساعات من عودته إلى باريس، ليرى القطط متجمعة أمام المدخل تنبش بأكياس القمامة بحثًا عن الطعام، فيحيلنا المشهد إلى تونس التي زارها ابنها الفرنسي، لينتهي أنّ المشهد لم يتغيّر منذ وصوله وحتى مغادرته، وأنّ حال البلاد بعد الثورة حال محبطة، وهو أمر مقبول بالطبع، ولكن ماذا حصل بين هذين المشهدين على مدى 240 صفحة؟

يقول الناشر إنّ الرواية تقتفي "بذكاء" تحولات البلد كاشفة عن دلالاتها وتأثيراتها... وهذا حصل بالطبع، وخصوصًا مع مريم التي بدأت تعبّر عن رأيها ولا تخاف، وسعاد التي تزوّجت من ثريّ من أجل ماله، وفوزي المثليّ الذي لا يخفي الأمر ولا يخجل به، وله من الأصحاب الكثيرين رجالًا ونساءً، ولمياء التي قد تكون شاذّة أيضًا، ولكن ما الجديد الذي قدّمته لنا الرواية في خلال حركة الشخصيات والأحداث التي قامت، وعلاقة ذلك بالمكان والزمان الجديد بعد عشر سنوات على الثورة؟ لا أعتقد بأنّ جديدًا قد تمّ تقديمه.

شخصية "الزرميط/صاحب الكلاب" التي توحي بما ليست عليه، هي الشخصية الأقوى في النص، وهو الذي قد يكون ابن وداد، أي ابن الحرام، فيكون المخالف للقانون، طيّب القلب، الذي حمل علم بلاده وأنشد النشيد الوطني عند فوز المنتخب في مباراة كرة القدم وتأهله لكأس العالم... تلك الشخصية التي تشبه الكثيرين من أبناء بلادنا، وخصوصًا الذين يتحيّنون الفرص لمغادرتها في أول فرصة ممكنة. ولكنها لم تُعطَ المساحة التي يستحقّ. شخصية أخرى مرّت بشكل عابر كان حوارها مع البطل من أجمل ما مرّ في الرواية، العجوز التي يلتقيها في المقبرة تزور قبر ابنها الذي مات في الثورة، والتي تحثّه على زيارة قبرَي والديه.

أمّا ما يصدمك في نصّ لروائي كبير، السرد لعبته والرواية ملعبه واللغة يطوّعها كيفما يشاء، تركيزه على الجنس بشكل منفّر، لتجد نفسك أمام أحداث غير منطقية، فلمياء تلتقي به مصادفة، لتسير بهما الأمور نحو ممارسة الجنس، ولكن لا يحصل الأمر لأسباب مختلفة في كل مرة. وسعاد من بعدها تقدّم له نفسها ويمارسان الجنس في بيت مريم، وسامية التي توحي لنا الحوارات بأنها قد تكون معجبة به، فتكون المرأة من وجهة نظره، المرأة التونسية، بعد الثورة، امرأة سهلة لا همّ عندها سوى اللقاء بهذا الفرنسي لتقدّم له نفسها، فيكون الهمّ الجنسي الذي يسيطر على شخصية البطل، منفّرًا ومستهلكًا وغير منطقيّ، حتى وإن كان يقصد أن يمرّر التحوّلات ونقاشات الناس والقضايا والهموم التي يعيشونها في هذه الأيام، بتلك السلاسة والبراعة، وهو أمر مطلوب ويجب أن تلتزم به الرواية بوصفها عملًا فنّيًّا وليس درسًا أخلاقيًّا أو محاضرة سياسية، إلا أن سيطرة الجنس واستسهاله كأنه قضية تفوق كل القضايا، يُنقص من قيمة كل ما أراد الكاتب إيصاله.

كما أنّ الاستسهال لدى الكاتب الكبير لم يكن في شخصية الفرنسي التونسي الذي تنتظره نساء تونس لتقيم علاقة معه فحسب، بل المعلومات التي يقصدها الكاتب أحيانًا لينوّع في نصه، فهي أيضًا لم يعرها الكاتب الاهتمام الكافي، فهو يقول إنّ الأحداث تحصل بعد كورونا وبعد الثورة بعشرة أعوام، أي بين عامي 2021 و 2022، ولكن قبيل نهاية النص، يقول إنّ مريم التي تحبّ ملحم بركات، لم تحضر حفله الذي أقيم في قرطاج العام الماضي بسبب غلاء سعر التذكرة، أيّ عامٍ ماضٍ وملحم بركات توفّي عام 2016!

الغريب في أمر رواية مثل "عطلة في حيّ النور"، أنّ المحافل الأدبية تتغنى بها، وتتصدر قوائم الجوائز الأدبية المرموقة، لأنّ الجميع يستسهل الأمور كما فعل الكاتب، والناشر، فلماذا نقرأ ونبذل الجهد لنكتشف الجديد القيّم، ما دام الكتّاب المشهورون ما زالوا يكتبون؟


الأكثر قراءة

ايجابيات نيويورك لا تلغي الخوف من حسابات نتانياهو الخاطئة ميقاتي يعود من العراق قلقا… وعقبتان امام حل «اليوم التالي»؟