اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يقول الروائي السوري الكردي "جان دوست" في حوار مع عبد الكريم قادري على موقع ضفة ثالثة، إنّ الرواية التاريخية تعيد قراءة التاريخ وتستنطق شخوصه دون المساس بالواقعية التاريخية الملزمة، كما يعتبر أن الخيال يؤدّي الدور الرئيس في هذه الرواية، كما يتكبد الروائي مشاق البحث في الكتب والحصول على التفاصيل الدقيقة التي قد تنفع نصه، وهو في حاجة ماسة إلى الخيال تمامًا مثل باقي الروائيين. ومن هذا الرأي، ننطلق مع الكاتب لقراءة روايته الجديدة "الأسير الفرنسي (دار الساقي 2023)".

يبلغنا الكاتب في نهاية روايته بأنه كتبها ما بين نيسان وآب من العام 2022، وقد نُشر رأيه حول الرواية التاريخية في أيار 2022، أي وهو منكبّ على الكتابة، فكان في رأيه ذاك يدافع عمّا يكتبه الآن، وهنا لا بدّ لنا من التوقّف عند رأيه ودفاعه عن هذا النوع من النصوص، لأنّ البعض يقول إنّ العودة إلى التاريخ هو إفلاس كلّيّ، لأن هذا يعكس ضحالة في الخيال، وتعدّيًا صارخًا على صلاحيات المؤرخ وكتّاب التراجم والسير والوقائع والأحداث، فهل لجأ إليه دوست لهذا السبب؟

تبدأ الرواية بمشهد تخييلي للحظة موت المستشرق والديبلوماسي الفرنسي بيار جوبير، الذي رافق نابوليون في حملته على مصر، حيث يتذكّر جوبير أوراقه التي نسيها في الإسطبل حيث أُسِر في بداية القرن التاسع عشر في إحدى مناطق الأكراد على الحدود الإيرانية، وهو في طريقه للقاء الشاه وإيصال رسالة من الأمبراطور نابوليون، ويصرّح لنا الكاتب بأنه سمح لنفسه بتخيّل لحظة موته، ولأننا نعرف دوست الكردي، نستنتج أنّ اختيار هذه الشخصية التاريخية بالتحديد، والأيام التي أُسر فيها لدى الأكراد، ستكون من أجل الحكاية عما يحصل في مناطق الأكراد في تلك المرحلة.

تصل أوراق جوبير مصادفة إلى يدي الكاتب، حيث كان يزور مدينة بايزيد، ويلتقي بمجموعة شباب يناقشون روايته الأخيرة، ومنهم يعرف بأمر تلك الأوراق، فيحصل من صاحبها على صور عنها، ومن هناك تبلّغ الرواية القارئ بأنّ كاتبها لا يقوم سوى بترجمة تلك اليوميات.

هذا الإيهام لم يعد جديدًا على الرواية العربية، كما هو ليس بالجديد على الرواية الغربية، ونجد الكاتب هنا يلجأ إلى نوعين من التقنيات الروائية، ادّعاء الترجمة، واللجوء إلى الشخصية التاريخية، وقد نجح بطريقة السهل الممتنع، بلغته السلسة وبراعته في جمع الشخصيات التاريخية والمتخيَّلة أن يقدّم لنا نصًّا، من حيث الشكل لم يقدّم جديدًا كما ذكرنا، أما من حيث المضمون، فاللجوء إلى شخصية مستشرق فرنسي، بعيدًا عن شخصيات بلادنا التي اتّخذها الكثيرون لتكون "الشخصية البطلة" وحاكوا حولها الكثير ليصوّروا حال البلاد ويعيدوا الصياغة واستنطاق الشخوص وإدخال وجهات نظر وآراء هنا وهناك، فهو الأمر الجديد.

يؤسَر جوبير مع ثلاثة من مرافقيه، الفرنسي فيليب، والسائس علي الكردي، ومادو الشاب اللازي، ويوضعون جميعًا في زنزانة تحت الأرض، فيها كوّة في أعلاها، عرف فيما بعد من سجّانه محمود آغا وحفيده حسين بأنها خزّان مياه كانوا يستعينون به فيما مضى. ومن هنا تبدأ رحلة اليوميات التي يسجّلها جوبير، وفيها نقرأ حال المنطقة من خلال حديثه عن أيام الحملة الفرنسية على مصر، وحال فرنسا في تلك المرحلة، الحال التي نعرفها من كتب التاريخ، ولكننا نقرأ الآراء المختلفة حولها من خلال شخصيات توهمنا الرواية بحقيقة وجودها، ولمَ لا، وهي بالفعل تمثّل حال الناس في تلك الأيام على اختلاف قناعاتهم وآرائهم.

ولأنّ جان دوست بارع في تطويع نصّه السرديّ ليحمّله همّه الكرديّ، ولأنّه يعرف أنّ الرواية يجب ألّا تكون مُثقَلة بالقضايا والهموم على حساب السردية، نجد أنفسنا أمام أفكار تخطر لنا فتقولها إحدى الشخصيات، فنجد جوبير يحاور شابًّا مصريًّا، ويسمع الرأي نفسه من آخر فيما بعد، حول من أعطى الحقّ لنابوليون بأن يقود حملة على مصر، التي يدعي أنها ضد ظلم المماليك وبطشهم، ولكنها بالفعل لغايات فرنسية توسّعية بحتة، الفرنسيون الذين قتلوا ملكهم عندما ثاروا، كيف لهم أنّ يدّعوا الدفاع عن "زهرة اللوتس" وأهلها. وهنا يجعلنا نسائل التاريخ الذي يعيد نفسه، ونحن نعيش ادعاءات الغرب نفسها عندما يذكرون أسباب غزو بلادنا اليوم.

حال الكرد، والتي كانت الحال الأبرز من كلّ ما حملته الرواية من قضايا، والتي وردت بشكل مخفَّف حفاظًا على سردية النص، والتي أراد الكاتب أن يقول إنها ما زالت نفسها اليوم، فهم في تلك المرحلة كانوا ضائعين بين تأييد الشاه وبين تأييد العثمانيين، وحال الارتباك التي تحكم الكرد وضياع انتمائهم وضياع اتحادهم وقرار تحالفاتهم، كانت كذلك، وما زالت حتى اليوم.

تذكر الرواية أيام تفشّي الطاعون، وتحيلنا إلى أيام كوفيد، وتصوّر حكّام بلادنا، بين الحكيم والجيّد، وبين الفاسد والباطش، أمّا مسألة الشرق والاستشراق، فكانت الأساس للحديث عن اهتمام المستشرقين بشرقنا، بلادنا، علّنا نكون اليوم مستشرقين فيها، ونبدي الاهتمام لفهمها حقًّا وإعادة قراءة تاريخها كما يجب، علّنا نصل إلى حلول ترقى إلى مستويات القراءات الحقّة للتاريخ والبناء عليها.

لقد دافع دوست عن الرواية التاريخية، وقدّم لنا رواية تاريخية، فكان في دفاعه وفي نصّه نفسه بارعًا وموفَّقًا، مقدّمًا نصًّا روائيًّا من الطراز الرفيع.


الأكثر قراءة

الضفة الغربيّة... إن انفجرت