اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في رواية "كل يوم تقريبًا" (دار المحروسة - مصر - 2022) للروائي والمترجم المصري محمد عبد النبي، تبدأ في صفحتها الأولى بأنّ حوارًا يحدث مع فؤاد، بطل الرواية، ورواةٌ لا نتعرّف عليهم في بداية القصّ، عندما تبدأ الجملة الأولى "أخبرنا فؤاد..." وتكمل مع "قال لنا..." إلى أن يصرّح بالرواة، إنهم مجموعة ولكنّهم اتفقوا على أن يتحدّثوا بلسان واحد مع ضمير الجمع "نا" بوصفهم أشباح فؤاد ومدوّني أوراقه التي نقرأ.

يستيقظ فؤاد صباح الخامس والعشرين من ديسمبر 2017، فؤاد الذي نعرف خلال أحاديث أشباحه عنه أنه رجل مثليّ، حياته مؤخّرًا رتيبة ومتماثلة، وهو يقوم بالأمور نفسها كل يوم تقريبًا، يسهر، يسكر، قد يمارس الجنس، ويعود إلى بيته فاقدًا للوعي والذاكرة، ويصحو على ما قد يفاجئه، كما صحا هذا اليوم، مع جروٍ إلى جانبه لا يدري كيف وصل إلى غرفته.

تستمرّ في القراءة، عاقدًا الأمل على أنّ تدخّلات مثيرة لهذه الأشباح، أو أدوارًا قد تؤدّيها تحمل ما يجعل من النصّ مثيرًا أكثر بوصفه يحكي قصّة مثليّ، مصريّ، عربيّ، ولكن لا يحصل ذلك، فتستمرّ الأشباح بالظهور كلّ فينةٍ وأخرى لتذكّرنا بوجودها، وأنّها هي التي تحفظ الأوراق والتي تروي تفاصيل حياة فؤاد، فتقول لا بأس، فقرار الكاتب قد يكون محقًّا بالتركيز على الشخصية وليس على اللعبة الروائية.

تعود بنا الأشباح، الأحداث، بالزمن، ونعود مع فؤاد إلى ماضيه، وكيف بدأت قصّة ميوله، ومعرفته بهذه الميول، ولكنّ الجميل في الأمر، أنّ الكاتب لم يثر حولها، في بداية تكشّفها لدى الشخصية، ما اعتدنا أن نشاهده أو نقرأه في أدبنا وفنوننا العربية، ولم يثر الموضوع بأن فؤاد ضحية اغتصاب أو تربية سيئة أو أيّ أمر آخر، بل جعل منه إنسانًا عاديًّا، ميوله الجنسية نحو الرجال، مارس الجنس مع الكثيرين، ولكن أزماته النفسية لم تكن بسبب ذلك، أو فلنقل بسبب ذلك فقط. فهو ابن بيئته، لديه رفاق مراهقة ورفاق شباب، رفاق سوء كما أسماهم، أو أسمتهم أشباحه، ولكنه كان يعيش حياة أيّ مصريّ مرّت أحداث كتلك التي مرّت عليه فتأثّر وأثّر، وعمل وترك العمل، مات أبوه واعتنى بأمه، أو لم يعتنِ كما يجب، شرب الخمر وسكِر وفقد الوعي، كالكثيرين من أبناء جيله الذين أمِلوا، وفقدوا الأمل، فتكون الميول الجنسية أمرًا أرادت الرواية أن تقول، إنه موجود، فلتقبله مجتمعاتنا، وانتهى.

المثير للجدل في النصّ أنّ فؤاد كان طالبًا في جامعة الأزهر، وأن يُطرَح الأمر في مصر، بأنّ شاذًّا تخرّج من تلك الجامعة، فهو أمر جديد، أراده الكاتب أن يُطرَح، ولكنه لم يكن مستفزًّا، بل على العكس، جاءت أحداث الأزهر، التي ذكرتها الرواية، بعد إعداة نشر رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر"، لتطرح مسائل أعمق من الشذوذ، وهي مظاهر التخلّف والرجعية، وخصوصًا عندما تمرّ في الرواية بعض الحوارات مع طلبةٍ يتظاهرون ضدّ الروائي والرواية والناشر، فنتبيّن بأنهم لم يقرؤوا النصّ، بل خرجوا لأنّ أحدًا ما أثّر على عقولهم، هو من قرأ وقرّر عنهم، وهنا تحيلنا الرواية إلى أسئلة كثيرة يجب أن يطرحها الشباب، من المثقّفين تحديدًا، ويفكّروا بسؤوليتهم تجاه أبناء جيلهم ممن لا يقرؤون.

شخصيات كثيرة تمرّ معنا، من رفاقه المهمّشين والمثقفين، من أعضاء حزب التجمّع وأفكارهم، إلى رفاق السهرات والسكر، إلى نادر الشاذ الذي حواهم في بيته وسرقوه فيما بعد، ولكن شخصية واحدًا مثيرة كان لمرورها تأثير بفؤاد وبالقارئ، وهي شخصية "ماما فيفي"، فكانت علاقة فؤاد بها كأنها ردّ على علاقته بأمه، فالأم هي من يجب عليها أن تعتني بابنها، ولكن فؤاد هو من كان يؤدّي هذا الدور، فجاءت ماما فيفي لتكون الملجأ، وعلى الرغم من أنها كانت تتحدّث كثيرًا وكان يضطر لتحمّلها، ولكن هذا أمر طبيعيّ يحمله الأبناء من أمهاتهم، أما عدم معرفته بخبر موتها إلا بعد عام على حدوث الأمر، فهو الأمر الأكثر تعقيدًا، ففؤاد بضياعه وعدم استقراره حاله النفسية، هو الذي لم يعرف ما يريد، وليس الأم أو فيفي أو أي أحد مرّ في حياته.

مرّرت الرواية بعض الأحداث السياسية، ولكنها لم تركّز على أن تحوّلًا كبيرًا حصل بعد الثورة في 2011، ففؤاد، بوصفه ممثّلًا لجيل بعينه، أزماته موجودة في بلاد مأزومة، ولكنها استمرّت بعد الثورة، فلم يتحقق بعدها الكثير. كما تمرّ الكورونا سريعًا فيفرح فيها فؤاد لأنها تجبر الجميع على أن يعيشوا بالسجن الذي كان يعيشه في بيت الريف.

تنتهي الرواية بإخبارنا بسبب وصول الجرو إلى غرفته، والأمر لم يكن مفاجئًا، فهو حمله معه عندما عاد في حالة سكر كعادته، ككل يوم تقريبًا، ولو أنّ وصول الكلب كان لأسباب مختلفة، لكان النصّ فقد فرادته.

مأخذ واحد على الرواية أنّها في صفحات كثيرة في وسطها قد تشعرك بملل من جراء تشابه بعض الأحداث التي تتذكّرها الأشباح مرتبطة بحياة فؤاد، وكان برأيي من السهل الاختصار منها، ولكن إن أردنا تبريرها، يكون العنوان بحدّ ذاته مبرّرًا لإصرار الكاتب على ذِكر أحداث قد تبدو متشابهة ومكررة.

في النهاية نقول إنّه لا جديد مدهش قدّمته الرواية، ولكنّها قدّمت جديدًا مرتبط بشخصية يحاور أشباحه، ككل واحد منّا، فكأن الرواية تقول لنا، إن أشباحه كأشباح كلّ منا، وإن أزماته كأزماتنا، وإن ذكرياته وأحداثها تشبه كلّ ذكرياتنا، حتىّ وإن كان شاذًّا!

 


الأكثر قراءة

حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان