اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

د. منير الحايك

يقول بيير جيرو "إنّ كلمة الأسلوب رُدّت إلى تعريفها الأصليّ فإنها طريق للتعبير عن الفكر بواسطة اللغة"، ويقول في موضع آخر "إنّه لِسانيّ لأنّ اللغة أداة بيانه، وهو نفسيّ لأنّ الأثر غاية حدوثه، وهو اجتماعيّ لأنّ الآخَر ضرورة وجوده"، ويقول باختين حول تمظهر الأسلوب في الرواية، إنّه "في كل مرحلة تاريخية من الحياة الأيديولوجية واللفظية، يمتلك كلّ جيل داخل فئة من فئات المجتمع لغته، فضلًا عن ذلك، باختصار، فإنّ كلّ عصرٍ له لهجته ومعجم مفرداته ونسقه في التميّز الخاص، وهي بدورها تتباين بحسب الطبقة الاجتماعية والمؤسسة المدرسية".

واستنادًا إلى المقدّمة النظرية حول الأسلوب وعلاقته بالرواية، أنطلق للحديث عن رواية ريما بالي "خاتم سليمى" (منشورات تنمية 2022)، التي كان للأسلوب فيها دور ميّزها وأعطاها أهمية يصعب وصفه معها.

خاتم سليمى، أو سلمى الحلبية التي غيّرت اسمها من سيلين الفرنسي، الشابة السورية التي تقع في حبّ الموسيقار المستشرق، سيلفو كارلوني، الذي اختار أيضًا اسمًا شرقيًّا، شمس الدين، ولوكاس بيريز الذي يقع في حبّ سلمى، وكما ذكر تقديم الرواية على غلافها الخلفي، يتّفق الثلاثة على حبّ مدينة حلب وتعلّقهم بها.

بداية الرواية توهِم بعجائبية قد تحكم النص وعلاقات السرد بالشخصيات وباقي العناصر الأخرى، ولكنك تكتشف فيما بأنّ ما تظنّه عجائبيًّا، وهو المتمثّل بإشعال الشمعة والرؤى التي ترافقها حين يستلقي لوكاس على سجادته التي فيها ورود قد تكون مرسومة بدم شخصية من تراث أو أسطورة، تظلّ تطل بين الحين والآخر، لا لتشكّل أساسًا في بناء النصّ، بل لتكون جزءًا من "الأسلوب" الذي حكمَ الرواية، فكانت القراءة محكومة بسلاسة وبساطة، مع قوة الحبكة والقصة والقضايا المطروحة، بشكل لم أجد وصفًا له.

سلمى أحبّت شمس الدين، الذي بدوره أحبّها ولم يفصح لها إلا في نهاية النصّ، قبل وفاته، أو ما توهّمناه، إلا أنّ مشروعه الموسيقي وحبّه لحلب وللصوفية، كان همًّا أوّل بالنسبة إليه. لوكاس أحبّ سلمى، ووجد الاثنان في قصّة حبّ والديهما من الأمور المشتركة الكثير، كانت داعمة لبداية قصّتهما، التي تخلّلها علاقة جنسية وتعلّق وسعادة، ولكن الرواية كانت تجد دائمًا الفُرَص لتحول بين لقائهما، قبل الحرب وفي أثنائها، وحتى عندما زارت سلمى إسبانيا. وما المشترَك بين كلّ ذلك، هو أسلوب فيه حرفية متقنة تجعلك تقلّب الصفحات وتبدأ بالتمهّل حتى لا تنهي النصّ والمتعة بشكل سريع.

سوريا وحربها حضرت بقوّة في النصّ، من دون توضيح موقفٍ مع هذا الطرف أو ضدّه، وهو ما أكسبَ الرواية ألَقها، كيف لا ونحن نرى بوضوح بأنْ لا أحد يكسب في الحرب، ولا أحد يحمل شعارًا ويسعى فعلًا لتحقيقه، أو على الأقل هذا ما حصل هناك، ولعلّ حلب بتنوّعها وتاريخها العريق كانت الرمز الأعمق والأقوى والذي مدّ الرواية بالكثير لتحقيق ما تصبو إليه في حركة الشخصيات، فالمكان، الذي يلتقي فيه إيطاليّ وإسبانيّ، وما للمكانين من عراقة وحضارة، بالحلبية حاملة الجنسية الفرنسية، وهو حلب، يرمز ليس فقط لعراقة موقعية المكان الجغرافية، بل للأهمية التاريخية، حيث تلتقي كل الحضارات دائمًا فيه، سلمًا أو حربًا.

الحبكة المتعلّقة بإيجاد الخاتم من قِبَل لوكاس، منذ بداية الرواية، ومتابعتنا لهذا السبب، على الرغم من أنه قد يشوبها بعض الاستسهال من قِبَل الكاتبة، لتربط بين الشخصيات في النهاية، إلا أنها، وقبل أن يسترسل عقل المتلقّي في الشكّ بأمر استسهالها، تنهي الرواية بإيهام قويّ، يجعلنا نعيد الحساب، ليس فقط بهذا الشأن، بل بالعديد من الأحداث أيضًا.

لغة النصّ شابتها بعض الهِنات، النحوية والمطبعية، ولكنها قليلة وأظنها مسؤولية الدار لا الكاتبة، ولكن الأكيد أن هذا لا يؤثّر على السحر الذي قلت سابقًا إنني لم أجد له تفسيرًا، في أسلوب ريما بالي ولغتها. قد يكون الأمر شخصيًّا لأنني أفضّل أن تكون لغة السرد بهذه البساطة، بأسلوب سهل ممتنع، ولنترك للشعر ما تبقّى، فاللغة في الرواية أداة لأمور أعمق، والمتعة نستمدّها من مشهد ووصف وحدث وحوار ولعبةٍ ما، وليس من عرض العضلات اللغوية، لذا كانت اللغة غايةً في البساطة المعقّدة الممتعة.

مأخذٌ واحد على الرواية، مشهدٌ كان الاستغناء عنه واجبًا برأيي، وهو عندما يلتقي شمس الدين بصلاح ومهند، العازفين في فرقته القديمة، اللذين عذّب أحدهما الآخر ليثأر لأهله، وليتحدّث كلّ منهما عن إجرام الجهة التي ينتمي إليها الآخر، فهذا "كليشيه" أصبح مبتذلًا، والمتلقّي يعرف ما حصل وما زال يحصل في بلادنا.

قضايا كثيرة طرحتها الرواية، علاقة الأبناء بأهلهم، الزواج والتزاماته، الأحلام والطموحات، الحرب والوطن، ولعلّ أبرزها قضية الحبّ، وتعريف الحبّ، وكيف نحبّ، ومتى نعرف بأننا أحببنا. خاتم سليمى، رواية الحبّ والحرب، رواية العجائبية والأحلام، رواية الأهل والأبناء، ولكنها بشكل قويّ، رواية الأسلوب. 

الأكثر قراءة

ماذا يجري في سجن رومية؟ تصفيات إسلاميّة ــ إسلاميّة أم أحداث فرديّة وصدف؟ معراب في دار الفتوى والبياضة في الديمان... شخصيّة لبنانيّة على خط واشنطن وطهران