اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


رأيته في الأول من آذار متأبطا عمره، جالسا على حافة الصبح ينتظر إشارة الدخول الى باحة قصر الزعامة.

نادى الصباح للضوء، ترجل سعاده من على صهوة جواد الخلود، ومشى نحو الصبح ليقطف بقع الضوء وجنى ثلاثة أرباع القرن من الغياب.

هو يتذكر أنه كان يؤسس لمنزل عائلي في ضهور الشوير، ويذكر ايضا ان المبلغ المخصص الذي وصله لا يبني جدارا واحدا، ويذكر أيضا أن النزوح من الشام الى لبنان ومن ثم من لبنان الى، وهذا الترحال المستمر من مدينة الى مدينة، وأن بناء المنزل يحتاج الى استقرار لأن الاستقرار طريق البناء، تعذر على العائلة تحقيق حلم سعاده ببناء المنزل.

ولأنه سعاده الذي لم يعد لأولاده فقط بل أصبح للأمة، ولأنه موجود في حزب الأمة رافق بناء منزل الزعيم جميع القيادات التي تعاقبت على قيادة الحزب.

وتبدل الحال، من منزل للعائلة الى قصر للزعامة يبعد عن العائلة كبعد الحزب عنه، عندما وصله خبر بناء قصر الزعامة، وأن فخامة البناء أكبر من فخامة الحزب، قرر أن يزوره صباح الأول من آذار.

حمل مئة وعشرين سنة من عمره وتوجه الى مبنى قصر الزعامة.

لم يزعجه كثيرا الاسم، لأنه أعطى الزعامة خصوصية سورية لم يشهدها العالم القديم ولا العالم الحديث، لذلك كان يأمل أن يكون قصر الزعامة على قاعدة إدراكه للزعامة.

كان ينتظر أن يرى متحفا معلّقا على أغصان الصنوبرات، ومجموعة من الشباب والصبايا يتسامرون ويتحاورون بمواضيع اللوحات العاصية على ثلج ضهر الشوير وجليدها، والنابضة بالحياة رغم قساوة صقيع صباح ذلك اليوم.

وصل الى الباحة فلم ير سوى الأشجار وفخامة الأحجار، ولم يشعر سوى بالصقيع يتغلغل في أنحاء جسده، فهدأ وصمت ولم ينفعل ووعد روحه بأنها سترى بناء مختلفا حين يدخل القصر، حمل أعصابه وأخفى مشاعر الخيبة وتوجه نحو بوابة الدخول ليصادف الصدمة الأولى، البوابة مقفلة، واسى مشاعره وقرر أن ينتظر، ربما يكون أخطأ في التوقيت، وربما دوام العمل والابداع في هذا الزمن يختلف عن زمنه.

انتظر لساعات، فهو لا يريد ان يعود قبل الحصول على الخبر اليقين.

بعد طول انتظار رأى رجلا على مسافة من سماع الصوت، فسأله من بعيد بصوت يحمل وجع ثلاثة أرباع القرن: متى تفتح بوابة قصر الزعامة؟

أجابه: في أوقات الاجتماعات وإحياء المناسبات.

أسقط من ذاكرته الصورة التي رسمها، صورة قصر الزعامة يعج بالناس من كل الأجيال والأنواع والأشكال، القصر الذي يحمل في مكاتبه وبين جدرانه رسائل النظرة الجديدة الى الحياة والكون والفن، صورة القصر الذي تجد في داخله فخامة للحياة تفوق أي فخامة أُخرى، ورسَمَ الصورة الجديدة، صورة الجدران الميتة والغرف الفارغة، والممرات العابقة بطعم الصفقات، والأبواب الخشبية لتي تشبه وظيفتها وظيفة البوابات الجرارة للمحلات التجارية.

كان ينتظر أن يرى حول القصر جيشا مدججا برصاص اشتهاه يوم نكبة فلسطين ويوم أعلن الثورة، لكنه رأى الرصاص ولم ير الجيش.

كان ينتظر أن يرى لوحات القمم، لكنه لم ير سوى صور جديدة لأشخاص يعرفهم، وشماتة من خصوم طلب لهم الحياة.

لأنه قال لنا إن المبادىء قواعد انطلاق الفكر تخايل قصر الزعامة خلايا حياة تبعث أنوار النهضة، ولم يخطر بباله أننا أصبنا بداء المراوحة، ولم يخطر بباله أننا لم نجتهد بعد استشهاده مرة واحدة ونُصِب، وأننا حتى اللحظة نحيا حراكا دون بوصلة، وما زلنا نتخبط بدراسة الدستور، وندور على محور لا يشبه محور النهضة.

وقف على البوابة، شتم العتمة، شتم الضوء، استدعى البرواز، أسكنه خياله وكسره.

حاول أن يغادر فلم تطاوعه روحه، نظر الى أغصان الصنوبرات رأى غصنا يشبه المقصلة عاد الى صبيحة الثامن من تموز، اقتربت المقصلة منه، نظر الى البعيد رأى فرسانا على جياد من أصالة يقتربون من قصر الزعامة متمنطقين بمناطق سوداء، على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة، يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء، فقال: لن أُعدم مرتين وستنتصر مواسم عطاء الأغصان على خناجر عواصف الموت.

الأكثر قراءة

واشنطن تريد رئيسا بين تموز وايلول وكلمة السر بين بري وهوكشتاين جلسة «النازحين»: العبرة بالتنفيذ وتجاهل الهبة وتوصية من 9 نقاط مفاوضات القاهرة فشلت والمقاومة تدك القواعد العسكرية بعشرات الصواريخ