اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


حزم أمتعة الصباح، وما بقي صالحا من أدوات السفر، فهو يريد التعويض عن الخيبة بزيارة الى رأس بيروت،المكان الذي أحبه لأنه الشاهد الدائم على ولادة الخلية الأولى وعلى مواجهة ما بعد العودة مع حرامية الليل، المكان الذي شهد على عودة المياه الى مجرى النهر بعد أن شق لها سماسرة الينابيع مجاري الوصل مع الأملاك الخاصة .

راس بيروت في ذاكرته أبد لا يزول، تكوّن بتراكم أحداث فوق العادة، وكان آخرها تلك الغرفة المفروشة بتبرعات من القوميين،فكانت حالها تشبه حال الأمة، مجموعة كنبات محتلفة في اللون والشكل والحجم، بألوان غير متناسقة وأشكال متناقضة وأحجام متفاوتة، يدخل اليها الزائر،فيراها أشياء بشعة يمجها الذوق، يراها أشياء مبعثرة خالية من الحياة، وبعد أن يمكث ما أتيح له من الوقت،ويستعد للخروج ينظر الى أساس الغرفة فيراه بصورة تعكس ما استقر في روحه ونفسه من روح الزعيم ونفسه، فصارت الكنبة مركز انطلاق للفكرة وكرسي الخشب المتنقل في زاويا الغرقة جسر تواصل بين تنوع الأفكار .

هو يعرف راس بيروت نموذج المتحد القومي، ويتوقع ان يكون هذا النموذج انتقل الى معظم المتحدات، لكن ما أقلقه هو ما رآه في العرزال وقصر الزعامة،فأراد أن يطمئن على راس بيروت ويستذكر الماضي عبر زيارة صباحية مفاجئة.

خطر له التنكر، لكنه رفض الفكرة، فهو الزعيم، والزعامة لا تقبل التنكر ولا التقية، الزعامة صراحة ومواجهة وقيادة .

يبدأ الصباح في راس بيروت بعد الساعة العاشرة، فيتخطى زمن الضياء ويدخل في زمن الحريق حيث يصبج الضوء جمرا قبل ان يكون نورا، لكنه أراد ان يتمتع بالضياء، فهو انسكب بالضياء قبل أن ترى عيناه ضياء .

وصل الى رأس بيروت، ومعه حزمة من الأسئلة وصندوق من الاستفسارات ومجموعة من التوقعات المتناقضة.

هو يتذكر انه عندما كان يقوم بجولته الصباحية على شاطىء البحر يسير خلفه أرتال من الشباب والصبايا ويفرح بعضهم حين يفوز بتحيته، أو يحظى بابتسامة منه، والفائز الأكبر هو من أسعفه الحظ ووقف معه للحظات وسأله الزعيم عن الصحة وحال العائلة.

وكان العدد يزداد كل يوم حتى صارت بيروت تنتظر موعد جولته، بعضها على الشرفات وبعضها على سطوح المنازل وبعضها على الطريق وبعضها من سنحت له الفرصة يشاركه المشي،وقد ضاق الرصيف على طوله ووسعه بهذا البعض.

مشى على الرصيف المكتظ بحركة الشاب والصبايا، فهاله أن لا يعرفه أحد، مشى وحيدا وبعد أن قطع مسافة من الرصيف،ومساحة من الزمن،شعر بأن لا أمل ولا رجاء، ولأنه مسكون بالأمل قرر أن يسأل المارة عن حاله، فما سمع سوى اللوم والرحمة، ولم يسمع لفظة واحدة تخبره عن أحواله بين سكان الحي، أكثر الذين سألهم امتعضوا، وقلة قليلة صمتوا، وعندما عرفه أحدهم اعتذر منه فهو عاجز عن إرشاده الى غرفته التي كانت في راس بيروت وعاجز عن اصطحابه الى غايته لأنه يخاف عليه من أحفاد النقاش وتابت والصايغ، يا لطيف لهذه المصادفة، فلا التابت تاب أحفاده، ولا النقّاش نقش اعترافا على ضريحه، ولا الصايغ صاغ كتاب اعنذار، لكنهم عادوا الى حركته دون إذن منه.

بعضهم عرفه،فأثنى عليه وأسمعه المديح، وتمنى لو أنه كان حاضرا في هذا الزمن العصيب، وتمتم في أذنه عن عجائب ما فعلته قيادات ما بعد استشهاده كان يمشي وحيدا ويتذكر .

يتذكر البداية، التأسيس الأول وكيف أنيتت السنبلة حقولا من السنابل، يتذكر من خاف ومن انحرف ومن خان، ومن بقي على الإيمان.

يتذكر التأسيس الثاني، وجولات الحوار مع جماعة الانحراف، وكيف حاول أن يحضنهم لا ان ينتصر عليهم، ولكن لأنهم كانوا يريدن الانتصار عليه،خاب ظنهم وسقطوا ورقة ورقة، سقطوا أوراقا صفراء ولم تسقط معهم ورقة واحدة خضراء .

تذكر بداية التأسيس الثاني كيف بدأ بغرفة واسعة وصار بقاعة فسيحة يأتي اليها كل من كانت تتوق نفسه للعلم والمعرقة.

يتذكر ويصطدم بالناس، يمشي جسده على الرصيف، وروحه انتقلت الى هناك الى التأسيس الاول والتأسيس الثاني إلى المقارنة بين الذي كان والذي كان يريده أن يكون وبين هذا المُحل الذي أرعبه.

كان يعتقد أن ما زرعه في راس بيروت سينبت خيرات في كل المدن السورية، أن ما أنتجه في تلك الغرفة الصغيرة الملونة، سيكون مواسم النهوض في كل مدن الأمة.

بقي يمشي حتى غرقت الشمس في البحر السوري واستبدل الرصيف خيوط الشمس بانوار الكهرباء،فقرر ان يعود الى هناك وهو لا يعرف أين يكون هناك أهو في رمال مقابر مار الياس بطينا، أم هو في منزل من منازل بيت مري، هو لا يعرف أين هو، ونحن لا نعرف أين هو، لكنه عاد الى رمال مقابر مار الياس لأنه أراد هذه المرة أن لا يعود مرة ثانية قبل أن يرى سنابل زرعه تملأ حقول الوطن وقبل أن يرى سواقي ينابيعه تروي سهول سوريه الطبيعية، وحركة بعث النهضة تزوبع في جميع المدن والقرى السورية.

الأكثر قراءة

واشنطن تريد رئيسا بين تموز وايلول وكلمة السر بين بري وهوكشتاين جلسة «النازحين»: العبرة بالتنفيذ وتجاهل الهبة وتوصية من 9 نقاط مفاوضات القاهرة فشلت والمقاومة تدك القواعد العسكرية بعشرات الصواريخ