اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تنهي علوية صبح حوارها الأخير حول روايتها "افرح يا قلبي" (دار الآداب 2022) مع الشاعر محمد ناصر الدين "أنا أجاهرُ بما يجبُ أن يُحكى. لئن أراد الأدب أن يوجّه رسالةً معيّنة، فعليه أن يترك أثراً لدى القارئ حين يتماهى بالشخصيّات، ونكتشف أمراضنا ومآزقنا وعللنا وأسئلتنا، وبهذا المعنى يحفر الأدب عميقاً في الوعي الفنّي والإنساني". فهل استطاعت شخصياتها أن تترك ذلك الأثر ليحفر الأدب عميقًا في وعينا الفنّي والإنسانيّ؟

تبدأ رواية "افرح يا قلبي" مع رحيل غسان عن وطنه وقراره بعدم العودة مهما كانت الظروف، وتتكشّف معالم وصوله إلى هذا القرار مع الوقت في أثناء تقليب الصفحات، فتجد نفسك أمام حدث مأسويّ تراجيديّ تظنّ معه أنك تقف أمام لوحة "إيفان الرهيب"، ولكن من دون نظرة الندم التي علت وجه إيفان الذي قتل ابنه، فعفيف الذي قتل أخاه يستمرّ في مواقفه الرجعية الأصولية حتى نهاية الرواية.

هذا الحدث لا يكون هو همّ الروائية، وأن نكشف عنه هنا لا يقودنا إلى الكشف عن السرّ الذي تخفيه الروايات عادةً لتشويق القارئ وتضع جميع الأحداث وحركات الشخصيات لخدمة ذلك التشويق، فأنت تتوقّع هذا الحدث ويمرّ كأنه أمر منتَظَر وحان وقته، ولكن أين تكمن أهمية هذا النصّ الروائي البديع!

هذا النصّ يمكن وصفه بأنّه نصّ روائيّ كامل ومتكامل، عملت عناصره التقليدية التي يبحث عنها الناقد على رفد بعضها البعض بشكل "هارمونيّ" متناسق، وهذا ليس بالجديد فنحن أمام نصّ لروائية محترفة، الرواية ملعبها واللغة أداة تستخدمها وتطوّعها كما تشاء بما يحتاج إليه النصّ التي تشتغل عليه. أمّا ما يميّزه فهو الأثر الذي تتركه الشخصيات وحركتها وعلاقاتها لدى المتلقّين. وهنا يمكننا القول إنّها وكما تقول الروائية نفسها "تحفر عميقًا" وتصل إلى حيث يجب أن تصل لتبكيك وتستفزّك وتغضبك وتفرحك وتجعلك تبحث معها عن معلومات حول الموسيقا والفنّ بشكل عام.

إنها رواية حول صراع الهوية، والمغترب منّا يفهم ما يحدث مع غسّان ويشعر به وبضياعه وبقراراته المتغيرة على الدوام، فهو الموسيقيّ الذي بدأ حلمه مع جدّه، ثمّ تبعه بدعم من أخيه المثقف اليساريّ، ذلك الأخ الذي يُقتَل بسبب أفكاره، على يد الأخ الذي يَقتُل بسبب أفكاره أيضًا، ومن ثمّ يتابع حلمه مع كلّ القرارات المصاحبة بالتغيير مع كيرستن الأمريكية، ولكنه يعود إلى العود، ومن ثمّ إلى البلاد، فيعود المسلم الذي يتزوّج الثانية وينجب، ولكنه يغيّر مواقفه حال عودته إلى أميركا ليعود الأمريكيّ مع كيرستن، وهنا مكمن الحرفية في صناعة هذه الشخصية وتقلّباتها، وهو الذي يمثّل حال كلّ مغترب يعيش هذا الضياع، ولا يمكنه العودة إلى ما كان عليه قبل "الختم الأوّل" على جواز سفره.

شخصية الأبّ الخائن المتخلّف الذي يضرب الأم، والأم الراضية الخانعة، وشخصية الأخ سليم الضائع في تحديد شخصيته الجندرية، بالإضافة إلى شخصية عفيف الأصولية، كلّها جاءت لدعم حركة غسان وضياع هويته، بالإضافة إلى صديقه سعيد المغترب والذي يوهمنا بأنه يعرف ما يريد، ولكنه يعود ليكشف عن ضياعه، أمّا طارق فهو الذي كان له الحضور الثاني برأيي بعد غسان، على الرغم من أنّ الرواية لم تدعه يظهر على مساحة واسعة.

فطارق المصوّر الصحفي، يمثّل حال جيل من الذين يحلمون بأن ينجحوا بالمهنة التي يحبّون، ولكن المصوّر الصحفيّ الحربي الذي وثّق للموت في العراق ولبنان، تشكّل مهنته التي أحبّ السبب الرئيس في أزماته النفسية، وتكون هي السبب في تكشّف علاقته مع زوجته التي لم تكن تحبّه أصلًا، والتي بسببها يهاجر وهو في سنّ متقدّمة ليرضى بالعمل نادلًا في مطعم في باريس، ومعها تجعلنا الرواية نطرح تساؤلات كثيرة حول ما يقودنا إليه ما نحبّ، وهل حقًّا أن نمتهن مهنة نحبّها يقودنا إلى تحقيق الذات ثم السعادة؟

شخصية رلى وتحوّلاتها عادية وسمعنا بها وعنها، والابنة التي ترفض الأب الغائب من ثمّ تحنّ وتحصنه نعرفها أيضًا، ولكن أن تموت رلى فهو أمر تظنّه عندما تقرأه في نهاية النصّ أنّه من المآخذ التي ستتحدّث عنها حول الرواية، فأسهل الأمور عندما يضيع الزوج بين زوجتيه أن تموت إحداهنّ، ولكن عندما يستمرّ الأمر بالتعقيد ويستمرّ غسان بحرصه على مشاعر زوجته كيرستن، وهل فعلًا سيخبرها عن ابنته، تقول إنّ هذا الموت ليس تقليديًّا!

مأخذان على الرواية واحد منهما يمكن تبريره، وهو الملل الذي يحكم السرد في حوارات غسان الموسيقية مع كيرستن، حتّى تظنّ أنّ الكاتبة وقعت في خطأ الرتابة التلقينية حول فنّ الموسيقا، ولكن عندما يصل بك النصّ إلى قرار غسان الزواج بامرأة لبنانية وينجب منها مع موت الأب، تجعلت تلك الحالة من التصنّع في الحوارات تفكّر بشكل مختلف، فكأنّ الكاتبة أرادت لها أن تبدو بهذه الرتابة لتجعلك تقتنع بالتحوّلات القادمة لدى غسان، الذي لا ينتهي النصّ بأنه بقي أمريكيًّا خالصًا مهما حاول!

المأخذ الآخر هو إقحام الكاتبة الأحداث اللبنانية الراهنة، الثورة والأزمة وانفجار المرفأ، بشكل سريع، وهنا كان على الرواية أن تتركها لنصّ آخر أو تتعمّق أكثر بقليل في معالجتها، حتّى وإن كان القصد منها لاحقًا تبرير شعور الأب بالخوف على مستقبل ابنته بعد وفاة والدتها برصاصة طائشة، وهو الذي سيبقى مضطرًّا إلى السفر، لأنّ موضوع يتمها وسفر والدها، واحتمال موته الذي تنتهي الرواية بعدم الإفصاح عنه، أعمق وأخطر على نفسيتها ومستقبلها من كلّ المبررات بأن حال البلاد خطيرة، فمتى لم تكن كذلك؟!  

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة