اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب
في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه خيوط الإدارة والسياسة، تبرز قضية مؤسسة مياه البقاع كنموذج صارخ للتحديات التي تواجه القطاع العام في لبنان. هذه المؤسسة، التي تعد شريان الحياة لنصف مساحة البلاد، تجد نفسها اليوم في قلب فوضى إدارية ومالية تهدد بتقويض أسسها.

في مؤسسة مياه البقاع، الأساسية والحيوية في منطقة البقاع وهي مصدر رزق لحوالي 400 عائلة وتغطي نصف مساحة لبنان استثمارياً، شهدنا تغيّرات جوهرية بعد استقالة المدير العام السابق، رزق رزق، خلال فترة جائحة كوفيد-19. منذ ذلك الحين، شهدت المؤسسة استبدالات متكررة في مناصب المدراء العامين، حيث قام وزير الطاقة والمياه وليد فياض باختيار موظفة من الفئة الرابعة بولا حاوي في المؤسسة لتولي مهام المدير العام لمدة ثلاثة أشهر بدأت في 27\11\2023

في خضم الاضطرابات التي تعصف بالقطاعات العامة، تم تعيين بولا حاوي، مهندسة الاتصالات من الفئة الرابعة، لتولي مهام مدير عام مؤسسة مياه البقاع، وهو منصب ينتمي للفئة الأولى. جاء هذا التعيين في أعقاب استقالة جان جبران، المدير العام السابق لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، ورغم الجدل القانوني والسياسي الذي أثير حول القرار، إلا أن وزير الطاقة والمياه وليد فياض أصر على تجديد تعيينها لثلاثة أشهر إضافية، مشددًا على ضرورة استمرارية الخدمات العامة والظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.

من جهة أخرى، قدمت المهندسة زينب حسين شحادة، إحدى الموظفات من الفئة الثالثة، طعنًا في قرار تعيين حاوي أمام مجلس شورى الدولة، لكن الوزير لم يأخذ الطعن بعين الاعتبار. وفي سياق متصل، تعرضت حاوي لانتقادات بسبب ممارساتها التي سنعرضها بشكل متتالي والمتعلقة بصفقات غير مطابقة لقانون الشراء العام وتعيين أشخاص مقربين منها في لجان التلزيم، على الرغم من وجود مرشحين آخرين مؤهلين لهذه المناصب.

وفي ظل الظروف الراهنة، تواجه هيئة الشراء العام، المعروفة بدورها في تعزيز الشفافية وتصحيح الممارسات غير السليمة، تحديات جمة. فلم تتخذ الهيئة الإجراءات الكافية لمعالجة التجاوزات المتعلقة بمناقصة عمومية لتوفير العمالة المطلوبة لمؤسسة مياه البقاع للعام 2024/2025، حيث تم تقديم اعتراضين من قبل عارضين تم استبعادهم، ولم يتم البت فيهما حتى الآن. على الرغم من ذلك، وافقت الهيئة على استمرار المناقصة، مشددة على ضرورة الالتزام بالأنظمة والقوانين الصادرة عنها، بهدف عدم إيقاف الصفقة.

تأثرت مؤسسة مياه البقاع سلبًا بهذه الأحداث، خاصةً موظفي العمالة المؤقتة الذين، بسبب الفوضى السائدة، حُرموا من الحصول على زيادات في رواتبهم التي لا تزال دون المئة دولار. هذا الوضع ناجم عن قلة خبرة الإدارة وتفردها باتخاذ القرارات دون الامتثال للقوانين السارية.

عند تقديم العروض للجنة، تم رفض العرض الأول من شركة “وورلد وايد للتجارة” لعدم استيفائه الوثائق المطلوبة، وهو ما كان يستوجب من حاوي منح الشركة فرصة لاستكمال المستندات. أما العرض الثاني من شركة “المصطفى للتجارة والمقاولات”، فقد تم قبوله رغم كونه العرض الوحيد، وتمت الموافقة على الصفقة على الرغم من مخالفتها لشروط المادة 25 من قانون الشراء العام، مما يثير الشكوك حول وجود تواطؤ محتمل مع العارض “المصطفى”، خصوصًا أن قيمة الصفقة تضاعفت تقريبًا لتصل إلى حوالي 106 مليار ليرة لبنانية، بعد أن كانت حوالي 60 مليارًا.

وعلى الرغم من التأخيرات التي استمرت لما يقارب الشهر، صادق الوزير على الصفقة نظرًا لحساسية الملف الذي يؤثر مباشرةً على معيشة الموظفين، على الرغم من العديد من الممارسات الخاطئة التي تحيط بالقضية. وهنا يبرز السؤال الملح: لماذا تحاول حاوي إلقاء اللوم على الموظفين الذين بذلوا جهودًا حثيثة لتسليط الضوء على أخطائها ومحاولة تصحيح قراراتها منذ توليها المسؤولية؟ في خطوة أثارت الجدل، قامت السيدة حاوي بتعيين فريق من أقربائها وأصدقائها في المؤسسة لمتابعة قطاع الصرف الصحي، وهو قطاع حساس يتلقى دعمًا ماليًا بالدولار من الجهات المانحة كاليونيسف. وفي هذا الإطار، تم تكليف أربعة من العمال خلافًا للقانون، من بينهم زوجها غسان مزرعاني كمسؤول عن التشغيل، وسائقها ايلي شيخاني كمسؤول عن الصيانة، بالإضافة إلى عاصم صقر ورؤى القسيس اللذين تم تكليفهما بمهام لا تتناسب مع خبراتهما.

وفي سياق متصل، لم تكتف حاوي بتعيين المقربين منها ومن زوجها في مناصب حساسة فحسب، بل قامت أيضًا بتسميتهم في دورات تدريبية ولجان الاستلام والتلزيم، دون النظر إلى مدى تناسب اختصاصاتهم أو مهامهم الوظيفية مع المتطلبات الفعلية لهذه الأدوار.

والموضوع المؤلم هو أن هذه الأفعال تعتبر جزءًا من سلسلة من المخالفات التي ارتكبتها حاوي، حيث أنشأت لجنة تلزيم من أعضاء غير مؤهلين، وقامت بتكليف موظفة عضو رديف بشكل غير قانوني. وتجاوزت المهل القانونية بالتكليف، وقوبلت هذه الأفعال بالرفض والاعتراض من قبل الموظفة المعنية، التي أصرت على حقها بأن تكون التكليفات مبنية على المعايير والمهارات المناسبة.

كما تأتي هذه الخطوات في ظل الوضع المالي الحرج الذي تعاني منه مؤسسة مياه البقاع، حيث ترزح تحت وطأة ديون متراكمة لمؤسسات الكهرباء، وخصوصًا مؤسسة كهرباء زحلة. ومنذ تكليف حاوي بدائرة الصيانة والتوزيع، وعلى الرغم من الفارق الكبير بين الإيرادات وتكاليف الكهرباء المرتفعة، واجهت المؤسسة تحديات جمة، بما في ذلك التقنين الشديد في مختلف المناطق.

علما أن ما ذكرناه يحصل على مرأى من مجلس الادارة في المؤسسة المنقسم الى فريقين (مع وضد). فإنها ليست مجرد مخالفات فردية، بل تشير إلى ضرورة مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والمساءلة في كل المستويات.

مشاريع وهبات بمئات ملايين الدولارات تُقدمها الجمعيات لمؤسسة مياه البقاع، ومع ذلك، لا زالت الكثير والكثير من القرى لا تصلها المياه، بسبب الاستنسابية في اختيار المشاريع والمعايير الاولية في اختيارها. فليس هناك ضير في تكرار المشاريع في نفس المنطقة، المهم أن يرضى المقربون. اختيار لجان الاستلام بلا خبرة ولا اختصاص، هو المعيار الأفضل لتمرير صفقات مشبوهة، حيث لا يعلم أحد شيئًا عن شيء!

وعذر وزير الطاقة والمياه، بخصوص كيفية تعيين مستخدم من الفئة الرابعة، هو عذر أقبح من ذنب، وكان الأجدر به تطبيق القوانين وتيسير المرفق العام. هذا يضع الآلاف من علامات الاستفهام حول أدائه، فهل المطلوب حقاً تدمير المؤسسة وبيعها للقطاع الخاص؟ وهل هذا هو الجزء من خطة التعافي التي وضعت للبلاد وإنقاذ ما تبقى من دولة؟

تقف مؤسسة مياه البقاع اليوم على مفترق طرق، بين مستقبل يحمل بشائر الإصلاح والتطوير، وبين ماضٍ يكبلها بأغلال الفساد والمحسوبيات. وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية، يتطلع أهالي البقاع إلى تحقيق العدالة والشفافية في إدارة الموارد الحيوية التي تمس حياتهم اليومية. فهل ستنجح الجهات الرقابية في استعادة دورها، أم أن الفوضى ستستمر في طمس معالم الطريق نحو مستقبل أفضل؟

الأكثر قراءة

«اسرائيل» تواصل التهويل: انسحاب حزب الله او الحرب الشاملة تعديلات بالشكل لا بمضمون «الورقة الفرنسية» لا بروفيه وامتحان موحد لـ«الثانوية»