اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


"إنّ النظام الكامن للعمل الفنيّ له وظيفة مزدوجة، فهو ينظّم وحدة العمل من جانب، ويعبّر عن رؤية للعالَم، عن وعي جماعة اجتماعية من جانب آخَر. إنّ العمل الفنيّ ليس نتاج مؤلّف بوصفه فردًا، ولكنه يكشف الوعي الجماعيّ لجماعة أو طبقة"، هذا ما يقوله بيير زيما في كتابه حول النقد الاجتماعيّ، فما علاقة الأمر برواية "ميثاق النساء" (دار الآداب 2023) لحنين الصايغ!

عتبة النصّ الأولى توهِم بأنها ستكون روايةً نسويّة لكاتبة وشاعرة لبنانية، وهو أمر ليس بالغريب، ولكنك فيما بعد، وفي خضمّ القراءة تعرف الكثير عن ميثاق النساء لدى الدروز، وتعرف الكثير الكثير عن هذه الطائفة وعن تفاصيل معتقداتها وأعرافها، ويأخذك النصّ إلى حيث يريد، وحيث يجعلنا ندخل إلى "النقد الاجتماعيّ" من أوسع أبوابه، أو فلنقل من باب لم يُفتَح على مصراعيه من قبل، كما فتحته لنا هذه الرواية.

هي قصّة أمل، الفتاة الدرزية التي تعيش في أسرة شيخ وشيخة، مع ثلاث أخوات، الأب/الشيخ هو الحرفيّ الحدّاد، الملتزم بعقيدته بكلّ تفاصيلها وقوانينها وقيودها، بشكل يرى أنه الأنسب والأجدى في علاقته الإيمانية مع محيطه ودينه وربّه، ومعه الأمّ الشيخة التي لا تختلف عنه سوى بالتزامها بمساعدة جاراتها، وهو أمر في صميم أخلاق ومبادئ الشيخة وحياتها.

تظهر أمل المراهقة، المتفوّقة في دراستها، التي تعرف بأنّ فرصتها بإكمال تعليمها الجامعي تكاد تكون معدومة، ولتفتح طاقة أمل من أجل ذلك، تقبل الزواج من سالم، الثريّ الدرزيّ الملتزم، بشرط أن تكمل تعليمها الثانوي، وفيما بعد تكمل تعليمها الجامعيّ. هذا الحدث الذي تبدأ معه الرواية، ومن ثمّ تسافر بنا بين الماضي والحاضر وتقودنا لتوقّع المستقبل، في استباقات خارجية وأخرى داخلية.

أمل التي تعاني مع رحلة طفل الأنبوب، وتحمل بشكل طبيعي بعد سنوات من العذاب، في الوقت الذي لم تكن تريد لذلك الحمل أن يتم، فتولد رحمة في أوج تأزّم حال أمل النفسية وصراعاتها وحروبها مع سالم ومع نفسها، إلى أن تقرّر فتح الجبهة الأخيرة فتطلب الطلاق، ومن بعدها يكمل النصّ مع الأمل الذي يرافق حياتها، وفي أثناء ذلك تظهر نرمين من جديد، لتكون النقيض المرتدّ إلى التزامه الديني، في مواجهة تحرّر أمل وخوضها الحياة بطريقة جديدة.

حملت الرواية نقدًا لاذعًا ومباشرًا لعادات وتقاليد البيئة الدرزية، وفي مواضع كثير تناول النقد الطائفة بتعاليمها وتاريخها وواقعها، وبوصفها دينًا منفصلًا إذا جاز التعبير، كان النقد الديني/الاجتماعي هو المسيطر، على لسان أمل، المرأة التي عانت ما عانته من جرّاء التخلّف الذي يحكم عقل من ينادون بتحكيم العقل. والأعمق كان في التفاصيل التي حكت فيها الكاتبة للمتلقّي البعيد نسبيًّا عن واقع هذه البيئة، لتقول إنّ أمورًا كثيرةً تحصل، صحيح أن أهلها بغالبيتهم يحبّونها ويؤمنون بها، ولكن هنالك من يرفض ويفكّر بطرق مختلفة، لتقول له "ارفض" ولا تقنع بنصف حياة ونصف حريّة.

ركّزت الرواية بالفعل على القضايا النسوية في هذه البيئة، والتي يمكن أن تُقاس على أساسها الكثير من البيئات المختلفة، ليس في لبنان فحسب، بل في بلداننا المشرقية، وبلدان العالم الثالث، فشملت الحكايات الجدّة، والأم، وأمل ونرمين، ومن بعدهنّ كانت قصّة رحمة، الطفلة التي لم نعرف عنها الكثير، ولكنها ظهرت بأقسى الصور وأكثرها تأثيرًا في النص، بين السابعة والثانية عشرة من عمرها، لتكون الدليل الواضح على الألم والأمل في آن معًا، ولكن مع التأثّر الذي سيطرأ على المتلقّي منذ ظهور رحمة وتحميلها الذنب برحيل الأم، فتكون هي الشرارة لتدخّلات المتلقّي بأن يرى فيها أملًا أم ألـمًا للمستقبل الآتي، وتصبح رحلة أمل تحصيلًا حاصلًا للمرأة التي استماتت في الدفاع عن حريتها وعن إثبات وجودها.

وعلى الرغم من القضايا النسوية، فإنّ التحوّل الذي يطرأ على شخصية الأب، الشيخ الدرزي، وتعاطفه مع بناته، كان أمرًا كبيرًا ورسالة قصدتها الكاتبة لتقول من خلالها الكثير، فإنسانيتنا الجميلة والحبّ الذي يحيط بها ويسيّرها، تلك الإنسانية المقموعة بأفكار وعُقد وأعراف بالية، لا بدّ وأن تنتصر في النهاية.

مأخذ على الرواية هو الحوارات التي بدأت بمزيج سلِس بين المحكية والفصحى في نصف الرواية الأول، ولكنها تتحوّل بشكل غير واضح وغير مدروس إلى الفصحى بشكل كليّ، قد يكون بسبب تطوّر ثقافة أمل ومستواها الجامعي، ولكن ماذا عن الشخصيات الأخرى، فكيف لشخصية سالم أن تقول "هذا كلام هلاميّ لا ينفع" وهو لم يتغيّر كثيرًا، بل كان سببًا رئيسًا في حروب أمل وأزماتها.

إنّ هذا النصّ الروائي بصدقه وبوحه وجرأته، لهو واحد من النصوص الأقوى التي صدرت لهذا العام، في لبنان على الأقل، ليس لأنه حمل النقد اللاذع للطائفة الدرزية وأضاء على الكثير من الخلل والأزمات التي تعاني منها ويعاني منها أبناؤها، بل لأنّه حمل من صدق في التجربة الشعورية، نقلها النصّ بشكل سحريّ إلى المتلقّي، ولأنه ركّز على الألم، وعلى العذابات، يجد المتلقّي نفسه في نهاية النص عاجزًا عن الفرح لمصير أمل ونهاية قصتها السعيدة، لأنّ حياة المرأة في مجتمعنا محكومة بالمفاجآت والصدمات، في ماضيها وحاضرها، لذا ظلّت رؤية النصّ مسيطرة على أنّ تلك الأمور ما زالت تشكّل المستقبل.

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة