اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

بعد سنوات من انتهاء خدمته كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية (1966 ـ 1973 )، قال ريتشارد هيلمز لصحيفة "لوس انجلس تايمز" "أن تكون في هذا الموقع يعني أن تراقص النيران. هكذا أحسست أن حياتي بكل جوانبها باتت لأميركا وللانسان في أميركا. المشكلة التي واجهتني لدى انتهاء ولايتي أن الذين تضرروا من الأعمال، أو العمليات التي قمت بها، لم يتوقفوا عن محاولة اضرام النار في ظهري. لكنني كنت واثقاً بأن مأ أنجزته في غضون السنوات السبع، لا يمكن أن يجعلني احترق أو أن أقع أرضاً"....

استذكرت ذلك الكلام بدلالاته المثيرة، وأنا أرصد الشائعات التي تحاول النيل من المدير العام السابق اللواء عباس ابراهيم، ولطالما رأيتُ فيه، وبشهادة الكثيرين من أصحاب الرأي الحصيف، رجل المهمات الصعبة، ان لم أقل رجل المهمات المستحيلة، في بلد بحاجة وجودية الى هذا النوع من الرجال.

ثقتي به تكثفت أكثر فأكثر حين التقيت في باريس بزميل لبناني ـ فرنسي على بيّنة من العديد من الخفايا السياسية وغير السياسية. حدثني عن عملية بالغة التعقيد قام بها اللواء ابراهيم لحماية المؤسسة التي يتولى ادارتها، كذلك المؤسسات الأمنية الأخرى، من اختراق "الموساد" لها، انطلاقاً من التعاون والتنسيق بين هذا الجهاز "الاسرائيلي" والأجهزة الأوروبية التي تتعاون بدورها مع المؤسسات اللبنانية الأخرى. لا تفاصيل. لكن الثابت أن المدير العام للأمن العام السابق حال دون "الموساد"، والافادة من تلك التقاطعات اللامرئية بابعادها الخطرة.

لفت الزميل الى كيفية كشف اللواء ابراهيم المحاولات "الاسرائيلية" للوصول الى معلومات حساسة ان حول الدولة أو حول المقاومة.

الكل يعلم أنه كان يحظى عبر تلك الدينامية الهادئة، بثقة كبار المسؤولين إن في المنطقة أو في العالم، اذا أخذنا بالاعتبار أن لبنان كان لعقود، كـ "الفردوس لأصحاب العيون الزجاجية" بحسب رأي ضابط الاستخبارات البريطاني كيم فيلبي، كعميل مزدوج لحساب الـ "ك. ج. ب" في ذروة الحرب الباردة.

تلك الفترة الممتدة من 18 تموز 2011 وحتى أول آذار 2023، شهدت الأيام الأكثر هولاً في تاريخ الأمن اللبناني. ثمة حرب داخلية في سورية، وحيث تسنى لجماعات تبدو وكأنها خارجة للتو من جهنم (1200 فصيل بحسب نائب مدير الاستخبارات في البنتاغون ديفيد شيلد)، وبشبق جنوني نحو فرض ثقافة تورا بورا في أرجاء المنطقة.

هذه الجماعات كانت تسيطر على مسافات شاسعة من الحدود السورية مع لبنان، والتي يبلغ طولها نحو 375 كيلومتراً، والى حد اختراق سفوح السلسلة الشرقية والتموضع فيها، وفي ظل وضع داخلي لبناني قد يكون الأكثر هشاشة بين أوضاع الدول التي تتاخم سورية، ودائماً بسبب التصدعات الدراماتيكية، ان على المستوى السياسي أو على المستوى الطائفي...

الفصائل اياها تمكنت، وبفعل أجواء التأجيج المذهبي بوجه خاص، من التسلل الى المشهد اللبناني في أكثر من مكان. ومثلما اقتضى احتواء ذلك المواجهة العسكرية الضاربة والضارية، اقتضى المواجهة الأمنية الضاربة والضارية، بالتعاون العملاني الوثيق بين مؤسسة الأمن العام والمؤسسسات الأمنية الأخرى. وكان أن الأمن العام أحبط 61 عملية ارهابية، وتفكيك عشرات الشبكات والخلايا بحرفية عالية.

ثمة وجه آخر لفلسفة الدفاع الاستباقي، انشاء قنوات تواصل، ان عبر الدول "الصديقة" أو "الراعية" لتلك التنظيمات، أو على نحو مباشر لانقاذ ما (ومن) يمكن انقاذه من براثن تلك الذئاب البشرية. هكذا تمكن اللواء ابراهيم من تحقيق انجازات هامة، من بينها:

• التواصل مع "جبهة النصرة " وأطراف اقليمية معروفة، لاطلاق الحجاج اللبنانيين الذين تم احتجازهم فور خروجهم من الأراضي التركية عام 2012 في منطقة اعزاز السورية.

• القبض على شادي المولوي عام 2014، مع ما صاحب ذلك من ضجيج طائفي، وتهريبه في ظروف شديدة الالتباس، ليظهر بعد ذلك أنه من الرؤوس الارهابية الأكثر خطورة.

• تلك المفاوضات الشاقة مع "جبهة النصرة " عام 2014 لفك أسر 17 عنصراً من قوى الأمن الداخلي، واستعادة جثامين 8 جنود قتلهم تنظيم "داعش".

• الدور المحوري في تحرير راهبات دير مار تقلا في بلدة معلولا السورية عام 2014.

الدور توسّع ليشمل الرهائن، أو المحتجزين الغربيين في كل من سورية وايران، حتى إن صحيفة "وول ستريت جورنال" تحدثت في تشرين الأول عام 2020 عن لقاء اللواء ابراهيم في واشنطن، مع مستشار الأمن القومي روبرت أوبريان، لمناقشة قضية المحتجزين الأميركيين.

مهمات متواصلة في تلك الأوقات العصيبة، لحماية لبنان من التداعيات الكارثية للحدث السوري، بعدما بدا جلياً أن سقوط دمشق يعني تلقائياً، أن ترفرف الرايات السوداء على القصر الجمهوري في بعبدا وعلى السراي الحكومي.

عادة، الدول المتقدمة تعرف كيف تتعامل مع أصحاب القامات العالية (ثمة مئات الأمثلة على ذلك). لا تغتالهم بدفعهم الى الظل، ولا تتيح اغتيالهم بالشائعات التي لا بد أن تكون جهات متضررة (وحتى متواطئة) تسعى لحجب الانجازات، التي كان لها الأثر الكبير في الحيلولة دون لبنان والوقوع في ايدي المغول الجدد.

لكنها الفوضى الأخلاقية في لبنان كنتاج ميكانيكي للفوضى السياسية والطائفية.

الكلمة الفصل ليست لأصحاب الرؤوس السوداء (أو لقطاء السوق السوداء)، بل هي للتاريخ، بل هي... للحقيقة !!

الأكثر قراءة

عمليات اسرائيلية مكثفة في رفح والاستعدادات لحرب موسعة تتواصل! التيار والقوات في سجال «الوقت الضائع»