اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


يذهب الكثيرون إلى أنّ كتابة الرواية التاريخية اليوم ما هي إلّا "موضة" سائدة، مثلها مثل كل ما هو سائد في شتى مجالات الفنون والأزياء أو حتى البرامج والسوشيل ميديا، ولكن هل لجوء الكاتب لما هو سائد يقلّل من قيمة نصّه وبحثه، وهل هذا يعني أنّ من يكتب نصًّا تاريخيًّا لا يعود السبب وراء سعيه لأنه مجبول بهموم بلاده، ويسعى إلى مساءلة التاريخ والكشف من خلال البحث والتمحيص، حتى يحاول الإجابة عن أسئلة حول أوضاع بلاده المأزومة؟! هنا تتزاحم الكثير من الأسئلة حول دور المثقّف ودور الأدب ودور العمل الأدبي!

"أنتَ تُشرِق... أنتَ تُضيء" رواية رشا عدلي (الدار العربية للعلوم ناشرون 2022)، ليست رواية مميّزة بذاتها، على صعيد نتاج الروائية نفسها، وعلى صعيد الرواية المصرية أو الرواية التاريخية بشكل عام، ولكن كلّ نصّ يسعى فيه كاتبه إلى أن يجعل منه مادّة تفيد المتلقّي، إن على صعيد المتعة، أو على صعيد المشاركة بالحالات النفسية أو القضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها، أو على صعيد تقديم التاريخ وما يختزنه من خبايا ومعلومات بشكل سردي فنيّ، هو نصّ يُقدَّر ويُقرَأ ويُحتَفى به وبكاتبه.

تبدأ الرواية مع هروب مصطفى عبد المولى ولجوئه إلى إيطاليا مع زوجته وابنته، وتصوّر لنا الرواية معاناة هذا اللاجئ الذي رافقته هذه الصفة حتى يوم وفاته، وزوجته التي تخلّت بسبب مواقف زوجها عن حياتها وخصوصية تلك الحياة، أما الطفلة، فكانت حياتها هي الأساس الذي قصدته الرواية من قصة اللجوء، ليعود الأب ويظهر بسبب إصرار ابنته وعزيمتها. تنشأ الفتاة، وتتميّز في دراستها لأنها كانت واعية لظروفها ولأهمية التفوّق لتخفي صفة اللاجئة ويستبدلها محيطها بصفة المتفوّقة، وقد وُفِّقت بذلك، ووفِّقت الرواية بهذه الفكرة، حتى أوصلت رنيم لتكون باحثة في علم الآثار، الأمر الذي سيعيدها إلى مصر، الاسكندرية والفيوم.

تجري أحداث حصلت في مصر في القرن الميلادي الأول بخط متوازٍ مع الأحداث الآنية، لتجتمع في نهاية الرواية فتكون المومياء واللوحة المرتبطة بها هي لوحة سيرينا التي ثارت ووقفت في وجه زوجها مساعد الإمبراطور الروماني في تلك المرحلة، سيرينا التي أرادتها الرواية أن تكون جان دارك مصرية، فتكون عودة عدلي إلى التاريخ مردّها إلى موقف نسويّ، موقفها الشخصي من حال المرأة المصرية، لتقول إن رنيم وسيرينا، ومن مرّ من نساء مصريات خلال ألفَين من الأعوام، هنّ نساء مصر، المثقفات العالمات، الثائرات والداعيات للحرية، ولسنَ من يريدنا الواقع المأزوم اليوم أن نبني الصورة النمطية عنهنّ.

قضايا عديدة حملتها الرواية، حرية الصحافة وتكميم الأفواه من قبل السلطة والفاسدين، وما يرافقه من ظلم لمن يريد مصلحة البلاد بالفعل، وعندما تردّ إلى أنّ أصل الأمر بدأ مع السادات وقراراته، ندرك أنّ مواقف عدلي السياسية ليست وليدة المرحلة أو وليدة الصدفة، بل وليدة ثقافة ودراسة ومساءلة طويلة جدًّا. ومعها تأتي قضايا مثل سرقة الآثار وردمها وطمسها أحيانًا في سبيل الإيهام بالعمران والتطوير.

نهاية الرواية كانت جاذبة ومحبوكة بشكل متين وممتع، أحالتنا إلى البداية التي سيطرت فيها النظرة التشاؤمية، ولعل سيطرة التفاؤل بالأفضل في نهاية النص، كانت غاية بذاتها لدى الكاتبة، وليس فقط من أجل فنية النص، فنَشر مذكرات الصحفي المظلوم الهارب، ودخول الفاسد إلى السجن، أمور لا نراها بهذه البساطة في بلادنا، ولكن رشا عدلي أرادت تحقيقها في روايتها، علها تكون أملًا ورؤيا قد تتحقق في يوم من الأيام.

مأخذان أساسيان على الرواية لا بدّ من ذكرهما، أولهما هو لغة السرد ولغة النصّ عندما يسرد عن أحداث الفيوم والاسكندرية في القرن الأول الميلادي، فقد كانت كأنها تجري اليوم، وهنا أقول إن الكاتبة لم توَفَّق بأن تعطي تمايزًا ما، وهو ضروري، بين أسلوب السرد عن مرحلتين يفصل بينهما ألفَي عام. والمأخذ الثاني هو شخصية يزن، الذي لم تبرر الرواية مساعدته لرنيم، وتبرعه بمبلغ مليون دولار لأبحاثها، ومساعدتها لكشف الفاسد، بشكل مقنِع للمتلقّي، حتى وإن أحالت ذلك إلى إعجابه بها، فالأمر لم يكن بارزًا ومقنِعًا بشكل قويّ.

هي رواية تاريخية صحيح، ولكن مقاصدها واقعية آنية، فيها من النقد الاجتماعي والسياسي ما يجعل من التاريخ الذي ورد فيها مجرّد داعم لتلك القضايا التي سيطرت على النص وكاتبته، وهنا أقول إن هذا الأمر هو ما ميّز النص، والتفاؤل الذي حمله ميزة أخرى، أما الميزة الأبرز فهي صورة المرأة المصرية التي وصلت بالفعل كما أرادتها الكاتبة، فكانت سيرينا ولوحتها ومن معها من ثوار أراد عدوهم الروماني أن يفقدهم عقولهم وليس قتلهم، ورنيم التي سعت وطوّرت نفسها وأعادت الاعتبار لأبيها وبلادها، لتقول إن العلم والانتماء إن اجتمعا، هما أساس الحل لمشكلات بلادنا المأزومة.

الأكثر قراءة

ايجابيات نيويورك لا تلغي الخوف من حسابات نتانياهو الخاطئة ميقاتي يعود من العراق قلقا… وعقبتان امام حل «اليوم التالي»؟