اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


أحاول دائما أن أكتشف الكلام الذي لم يقله سعادة حين دخل الى الزنزانة، وجعل من سترته وسادة، ماذا كان يقول قبل أن يُغمض عينيه للنوم، وهل فعلا شعر بتعب السفر ونام، أو أنه أغمض عينيه وسافر الى أحلامه. هل ساعدته العتمة على النسيان، فاستسلم للوسادة ونام، أم أنها استحضرت الضعف والخيانة ومسلسل الأخبار الكاذبة.

أي مشاعر كانت تنتابه، مشاعر الخيبة أم مشاعر الغدر أم مشاعر الهزيمة والانكسار، أم مشاعر الاعتزاز بأن دمه سيكون ثمن الاستمرار بالثورة حتى النصر، فهو كان يثق بحزبه وبرفقائه، فقد دعا الجيش اللبناني الى المنازلة في مكان وزمان تختاره قيادة الجيش بدلا من ملاحقة القوميين ومداهمتهم في منازلهم، وخاطبهم بالواثق من الانتصار.

هل راودته فكرة المعجزة التي تُنقذه من الاستشهاد ،أم أنه كان يعلم انه لا يوجد مرجعية محلية او إقليمية أو عالمية تتدخل لوقف جريمة اغتياله ،لأنه صاحب نظرة جديدة الى الحياة والكون والفن وأنه اعتبر قضية فلسطين في عقيدة الامة السورية، فلسطين التي اتفق العالم بأجمعه على احتلالها وإنشاء دولة "إسرائيل فيها".

هل راودته فكرة أن القوميين سيهاجمون مخافر الدولة في كل المناطق اللبنانية، فنام على أمل ان يستيقظ على صوت العسكري يناديه وأن سيارة عسكرية تنتظر لتنقله الى السجن.

فهو أوصاهم ان يقاتلوا تحت قيادة الرفيق الصدر عساف كرم وقال لهم: أنكم أصغر جيش في العالم يحارب ليغير وجه التاريخ، لا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل.

هل ندم لأنه ذهب الى حسني الزعيم وأعطاه المسدس الهدية، وأعاد اليه شرفه الملطّخ بالخيانة والذي لا يشّرِف سعاده أن يبقى أثرا للخيانة بين أغراضه.

هل استرجع النصائح التي أتته من المقربين والذين يهمهم أمره للسفر الى خارج الشام فقهقه بصوت عال وصل الى آذان الحرّاس. كيف يسافر؟ ومن أين؟ وهل عمّان آمنة أكثر من دمشق، قهقه لأنه تخايل قوى الأمن تلقي القبض عليه في مطار عمان أو على الحدود الشامية الأردنية ويقرأ العالم عنوانا واحدا في الصحف المحلية والعالمية "إلقاء القبض على أنطون سعاده وهو يحاول الهروب ".

هل ندم لأنه شعر بأنه سيُستشهد قبل إنجاز ما وضع من عناوين لتوضيح النظرة السورية القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن، وقبل أن يُعيد كتابة نشوء الأمة السورية وقبل انجاز مهمة تحرير فلسطين.

هل ندم لأنه أسس الحزب الذي حرمه من استكمال عمارته الفكرية في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع والجغرافيا وجميع العلوم الإنسانية؟

كيف كانت ساعات تلك الليلة، هل كانت توازي عمرا أو أنها كانت مجموعة لحظات انتهت فجأة دون إنذار؟

ماذا فكّر حين رأى الأب برباري أمامه؟

خاف، اضطرب، أما انه تذكر ان الخطر في اضطراب الأعصاب وواجه لحظة الدخول الى الاستشهاد كغيرها من المواجهات التي خاضها مع الخصوم والأعداء والخونة.

بأية صورة استذكر العائلة، أكان مطمئنا لرعايتهم والاهتمام بهم، ومن سيتولى الاشراف على تنشئتهم، أو أنه كان يعلم أن ضياء التي كانت ساعده الأيمن وشريكته في كل الأعمال والقرارات العائلية قادرة على إنجاز المهمة مهما نزلت من مصائب عليها، لذلك أوصى ان تكون قطعة الأرض والأربعماية ليرة من نصيب العائلة.

لست أدري إن كانت تلك الليلة كافية ليسترجع شريط حياته منذ أسس الحزب حتى لحظة استشهاده. أعتقد كان بحاجة لليال عشر يسهرها وحيدا كي يستعيد شريط الذكريات على كثرة ما مر معه من تجارب وأفعال.

أعتقد ان ما دار من أفكار في رأسه تلك الليلة يملأ عشرات المجلدات وأكثر.

من أخبره ان حسني الزعيم بطل وطني يستحق كلام الإطراء، من قال له أن حسني الزعيم أنقذ معنويات الجيش السوري وخلّصه من الفوضى، من قال له ان حركة حسني الزعيم مباركة وأنها طبقت التشريع المدني وكانت انتصارا عظيما للمبادئ التي تكون محور إيماننا. ماذا قالوا له حتى يقول: أتمنى للقائد الظافر النجاح في عهد الاستقرار والبناء الجديد.

أليس من نقل له هذه الأخبار الكاذبة شريك في التآمر عليه، أما أنه كان غبيا حتى السذاجة، فساهم في اغتيال سعادة وتابع حياته بشكل عادي.

هنا تحضرني حادثة غير عادية تؤكد عن فعل النهضة في النفوس.

صدم الرفيق عبدالإله ناصر الدين أحد أصدقائه بسيارته بحادث غير مقصود أودت بحياته ،فحزن عليه وفارق الحياة بعد يومين حزنا عليه.

كيف لم يمت "فقعا" ذاك الذي أوهم سعاده بوطنية حسني الزعيم إن كان صادقا وكان مغشوشا بشخصية ذلك الزنيم؟

كيف لم يحاسب نفسه ذاك الذي اقترح على الزعيم ان ينتقل الى دمشق؟

كيف لم يحاسب أنفسهم أولئك الذين كانوا معه ولم يقترحوا عليه حلا مقنعا غير الذهاب الى حسني الزنيم؟

كيف لم تشعر القيادات الموجودة في لبنان بمسؤوليتها اتجاه ما حصل لسعاده لأنه لم تتحرك قشة من مكانها خلال أربعة أيام، سوى المواجهة التي تمت بين الشهيد الصدر عساف كرم وعسكر الدولة في مشغرة، والذي استشهد في مثل هذا اليوم.وهل يُعقل ان لا يكون في الحزب عشرات من أمثال الشهيد عسّاف كرم تعطلت أدوارهم بخطة مدروسة.

غريب، ألم يكن هناك خيار آخر غير السفر أو الذهاب الى حسني الزنيم، لماذا أقفلت بوجه سعاده كل دروب النجاة.

هل كانوا كما قال أحدهم أطفالا في حضرته؟ وهل كان كلامه تبريرا للهروب من المسؤولية؟ أم أن بعضهم كان شريكا بالمؤامرة على سعاده؟

مضى ثلاثة أرباع القرن على استشهاده، ولم يعمل القوميون الاجتماعيون على فك لغز تلك الليلة التي أوجعت الحزب والأمة بحجم حرب كبيرة.

مضى ثلاثة أرباع القرن ولم ينتصر القوميون ثأرا لإعدامه.

الأكثر قراءة

هوكشتاين والتفاوض تحت النار... «الشياطين» في تفاصيل آليات الـ1701 بري لوقف العدوان أولاً... حزب الله: العدو لا يستطيع «إملاء الشروط» «إسرائيل» تمهّد لاستهداف المستشفيات وبوحبيب يُحرّض على طهران!