اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


عندما نتحدث عن شركات الترابة في لبنان، نفتح ملفًا يروي واحدة من أكبر المجازر البيئية والصحية التي شهدتها البلاد، حيث امتدت تأثيراتها المدمرة منذ الثلاثينيات وحتى اليوم. هل يمكن أن نصدق أن هذه الشركات، قامت بتدمير ثروات طبيعية هائلة في حرب سرية؟ فقد استخدمت هذه الشركات وقودا نفطيا ثقيلًا، بما في ذلك الفحم الحجري والبترولي المرتفع الكبريت، وأحرقت الصخور الكلسية التي تحتوي على معادن ثقيلة، مثل الكروم والنيكل ونسب عالية من الكبريت. تصوّروا حجم الانبعاثات السامة التي تسببت في إزهاق أرواح خيرة شباب منطقة الكورة، وتحويلها إلى منطقة مليئة بالأمراض السرطانية والصدرية والوراثية وامراض القلب، لتترك آثارا مدمرة تمتد لعشرات الأجيال القادمة.

ترافق ذلك مع تدمير الحياة الطبيعية في الكورة، حيث أزالت شركات الترابة معظم جبال الواجهة البحرية التي كانت تُعَدّ موطنا لملايين أشجار التين واللوز والعنب والزيتون. لم يكن مصير التين واللوز سوى الإبادة الكاملة. واليوم نعيش مشهدا مأساويا لإبادة ما تبقى من أشجار العنب، ولكن المأساة لا تتوقف فهناك الأثر التدميري الذي امتد ليطال غابات الأرز العريقة في لبنان، وحتى مدينة حلب شمالًا، وبلدان الضفة المقابلة لحوض البحر المتوسط. ليبقى السؤال: ما الذي دفع هذه الشركات إلى ارتكاب مثل هذه الفظائع؟

والأغرب من ذلك، أن هذه الشركات تقع على شاطئ شكا، الذي يُعَدّ من أجمل شاطىء في الشرق الأوسط، وكانت لديه القدرة على احتضان مشاريع سياحية ضخمة، يمكن أن تدرّ عوائد تفوق ما يجنيه قطاع الأسمنت بأضعاف. لكن بدلاً من ذلك، كان الجشع والبحث عن الربح السريع دافعا لتدمير الشاطئ والقرى المحيطة به. فهل يمكن أن يكون هناك مخطط خبيث لإبادة أهل الكورة من اجل الاستيلاء على ترابهم الثمين؟

وفي أعماق هذا الحوض من البحر المتوسط، الذي يُعَدّ من أقل البحار عمقا في العالم ،حيث يبلغ أعمق نقطة فيه 1960 مترًا، كانت تحيا مخلوقات رائعة الجمال تعد سرّا من أسرار جمال هذا الشاطيء، مثل صدفة الميوركس، لكن للأسف، تم القضاء عليها تماما، كما قضي على ثروة الاسفنج الوطنية جعلت من البحر بحرا ميتًا. فما الذي حدث لغابات الأعشاب البحرية، التي كانت تعطي الأوكسجين منذ مئات ملايين السنين، وكانت تلعب دورا في تشكيل الأوزون؟ للأسف، تحول المطر الأسيدي ومياه الصرف الصناعي إلى أدوات قتل لتلك الحياة البحرية، مما يطرح تساؤلات مثيرة: هل ما زلنا نملك الوقت لإنقاذ ما تبقى من هذا الجمال الطبيعي؟ أم أن كل ما نملكه الآن هو سرد لقصص الإبادة التي ارتكبت بحق البيئة والإنسانية؟

كيف قضيَ على الزيتون؟

حفرت هذه الشركات مقالع للحصول على التراب الاحمر  في اواسط سهل الكورة منذ الستينيات، حيث اقتلعت ملايين الأشجار المعمرة، وأهمها الزيتون. فتحولت هذه المقالع الى بحيرات ومستنقعات تسببت في انتشار مرض عين الطاووس الفطري بشكل خطير، وهو مرض يأتي نتيجة الرطوبة الشديدة والحرارة المعتدلة. مع العلم أن الحرارة المعتدلة كانت موجودة في الكورة، ولكن لم يكن هناك رطوبة في المنطقة. وعندما حفرت مقالع التراب الأحمر، ازدادت نسبة الرطوبة بشكل خطير، بسبب تحول هذه المقالع الى بحيرات ومستنقعات ، وهذا ما اجمعت عليه جميع اللجان التي قامت بالكشف على منطقة الكورة.

وبقيت هذه الشركات مستمرة في مخالفاتها البيئية، إلى أن أوقفها أهالي الكورة بالقوة. وسقط من أهل الكورة شهداء من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي بادر للمقاومة الشعبية ضد شركات الترابة، مستمدا هذا الموقف من مقالات وافكار زعيمه ومؤسسه انطون سعاده، الذي سبق ان اعلن  اكثر من مرة ان "الصهيونية العالمية قد زرعت شركات الترابة في بلادنا، لتدمر بيئتنا وتقتل اهلنا وتستولي على مواردنا، وليس من مستفيد منها الا الجهات الاجنبية العدوة وعدد قليل من السماسرة والوسطاء" .

وقد سقط أيضاً في هذه المعارك عدد كبير من القتلى من الجهات، التي كانت تدعم هذه الشركات في أواخر السبعينيات واوائل الثمانينات من القرن الماضي.

من هي "هولسيم"؟

"هولسيم"، الشركة التي كانت تعرف بشركة الترابة اللبنانية، تملك قصة مليئة بالغموض والإثارة، حيث يملك حوالي 51% من أسهمها مساهمون سويسريون، ومنهم يهود سويسرا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعض السياسيين يملكون حصصا في هذه الشركة، مما يضفي عليها طابعا من النفوذ والتأثير. ومع كل هذا التاريخ، فقد عُرضت اسهم الشركة الآن للبيع، مما يثير الكثير من التساؤلات.

 ما علاقة "هولسيم" بـ "داعش"؟

في واحدة من أكثر القصص المدهشة في عالم الأعمال، تعرضت شركة "هولسيم" لعقوبات مالية فادحة وإدانات قضائية عالمية، بسبب تمويلها للإرهاب التكفيري في سوريا ("داعش"). كما تم الكشف عن أن هذه المصانع لجأت إلى دفع الرشاوى لقوى الأمر الواقع، في عملية تبدو وكأنها مأخوذة من أفلام الإثارة. ومع تاريخ طويل من الفساد المالي، تُظهر المصادر الخاصة أن شركات الترابة في شكا والهري ، موّلت عدداً كبيراً من أمراء الحرب الأهلية في لبنان.

وفي تطور درامي، استقال مديرها العام اريك اولسن في عام 2015، بعد تفاعل الدعاوى خاصة بقضية التمويل الارهابي، حتى حكمت وأدينت الشركة. ومع تزايد الملاحقات القضائية وتسليط الضوء إعلامياً على جرائمها البيئية والصحية، قررت الشركة عرض حصة الـ 51% للبيع.

فإنها قصة شركات غير قانونية لا تستطيع الحصول على تراخيص بشكل قانوني، ومع ذلك تستمر في العمل بفضل الشبكات المعقدة من الفساد والنفوذ. فهل ستكون هذه النهاية، أم أن هناك فصولاً أخرى لهذه القصة المثيرة؟

هل هذه الشركات لديها رخص؟ ولماذا؟

عندما تسأل شركات الترابة عن تراخيصها، يبرزون لك ورقة قديمة من المندوب السامي الفرنسي تعود لعام 1936. ولكن الحقيقة أن لا أحد يمكنه إنشاء مقلع في لبنان، دون ترخيص من المجلس الوطني للمقالع والكسارات. وبسبب وضعهم القانوني غير السليم، تلجأ هذه الشركات الآن للحصول على مهل غير قانونية بحجج مختلفة، مثل خدعة التأهيل. فهذه المهل التي أعطاها مجلس الوزراء في قراري 19 مارس 2024 و28 مايو 2024، جاءت مدفوعة بثمن باهظ، حيث يحاول البعض شراء أسهم شركة الترابة بسعر بخس جدا لإعادة تشغيلها، ومنهم نجيب ميقاتي عبر نقولا نحاس، والذي كان مديرا تنفيذيا لمجلس إدارة "سبلين"، مع شركاء آخرين مثل  أقرباء أحد السياسيين الشماليين من صيدا.

 ما هي الأسباب التي تمنعهم

من الحصول على ترخيص؟

هذه الشركات تقع في قلب مركز الجرائم البيئية والبشرية. أولاً، تواجدها في أراضي البناء السكنية في كفرحزير، يجعل من المستحيل منحها تراخيص قانونية. أضف إلى ذلك، موقعها بالقرب من مجاري الأنهار، خاصة مجرى نهر العصفور، مما يشكل خطرا بيئيا كبيرا، بينما يقع بعضها بين الينابيع، مما يؤثر سلبا على مصادر المياه العذبة.

ومن المدهش أن هذه الشركات تتواجد أيضا بالقرب من أحراش تاريخية، مثل حرش كفرحزير التاريخي (المجيدل)، الذي دمرته بالكامل. فوزارة الزراعة سجلت أكبر محضر ضبط في تاريخ الزراعة اللبنانية ضد شركة "هولسيم"، بعد أن كسرت حوالي 50 ألف متر من التربة، واقتلعت عشرات الآلاف من أشجار السنديان المعمرة.

ولا تتوقف المخالفات هنا. ففي القانون يجب أن تبعد المقالع عن الشاطئ مسافة 2 كيلومتر، لكن هذه الشركات تتجاهل هذا القانون تماما ، كما تتجاهل الالتزام بالمسافة المطلوبة عن البيوت السكنية، التي يجب أن تكون 1500 متر.

أضف إلى ذلك، أن هذه الشركات تهرّبت من دفع مئات ملايين الدولارات من الرسوم البلدية والمالية، حيث يجب أن يدفعوا للبلدية عن كل متر مربع من المقالع حوالي 12 دولارا، ودولارا واحدا للمالية، بالإضافة إلى رسوم تشويه البيئة التي تبلغ قيمتها عشرات ملاييين الدولارات.

لكن الأسوأ من كل هذا، هو أن هذه المقالع أصبحت مركزا لجرائم بيئية خطيرة، حيث دفنت أخطر النفايات الصناعية السامة داخلها فوق المياه الجوفية، التي تشرب منها الكورة والتي تصب في البحر، مما يسبب تلوثًا خطيرا للمياه والبيئة.

ما هي المخالفات البيئية

التي أحدثتها هذه الشركات؟

تستمر الشركات في ممارسة الأنشطة البيئية المدمرة، بطريقة تجعل الأوضاع أكثر سوءا من أي خيال. أولى المخالفات الكبرى تتعلق بإنشاء مصانع الإسمنت فوق أهم مصادر المياه الجوفية في لبنان، والتي تُعرف بـ "مياه الجرادي". حيث تقع هذه المصادر بالقرب من شركة الترابة الوطنية، كما يصب منها نحو 500 ألف متر من ينابيع المياه العذبة في البحر، مما يعرض واحدة من أغنى الموارد المائية في الشرق للخطر.

لكن المخالفات لا تتوقف عند هذا الحد. فتقع المصانع أيضا بين بيوت الناس في شكا والهري، مما يجعل سكان المنطقة يعيشون تحت وطأة التلوث والضجيج، دون أي حماية حقيقية لسلامتهم وصحتهم.

الأمر الأكثر إثارة هو انتهاكها لقوانين البيئة الدولية. فوفقا للقانون، يجب أن تبعد أي صناعة ثقيلة عن آخر منزل حوالي 120 كيلومترا، وهو ما يتجاهله الواقع تماما في حالة هذه المصانع.

علاوة على ذلك، هناك قانون ينص على أن أي صناعة ثقيلة، يجب ألا تبقى في نفس الموقع لأكثر من 50 سنة، بسبب تراكم المخزون السام الذي يؤدي إلى أضرار صحية مدمرة للبشر. ومع ذلك، تواصل هذه الشركات عملها في نفس الأماكن لفترات طويلة، مما يزيد من المخاطر الصحية ويهدد حياة الأفراد.

كيف تستمرّ هذه الشركات في انتهاك القوانين؟

في ضوء هذه الحقائق الصادمة، يتبادر إلى الأذهان العديد من الأسئلة الملحة: كيف يمكن أن تستمر هذه الشركات في انتهاك القوانين والموارد البيئية دون رادع؟ هل يمكن أن يكون الفساد والنفوذ هما العاملان الرئيسيان في تغاضي الجهات المسؤولة عن هذه التجاوزات؟

إذا كانت هذه الشركات قادرة على تجنب القوانين واللوائح التي تحمي البيئة وصحة الإنسان، فما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات في المستقبل؟ وكيف يمكن للمجتمعات المحلية، التي تعاني من آثار هذه الأنشطة، أن تحافظ على حقوقها وبيئتها في مواجهة هذا التهديد المستمر؟

الأكثر قراءة

صرخة معلولا: أيّها الأسد أنقذنا