اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يقول الناقد الأردني الدكتور عبد الحميد المحادين إنّ الأمكنة قد تكون واقعية وقد تكون وهميّة، يخترعها الإنسان ويمنحها سماتها وتفاصيلها وملامحها، أو هي تخييليّة معدّلة عن الواقع، موازية له، توهم به وليست هو. ولكن هذا لا ينفي أهمية الوظيفة التوثيقية للمكان، حيث تُذكر الأمكنة بأسمائها الحقيقية، وتكون أمكنة موجودة بالفعل، مدنًا وأحياء وشوارع وبيوتًا وأزقة، تظهر في النص الروائي، لتحوي الشخصيات وحركتها، والأحداث وتفاصيلها، ولتحوي الأمكنة التخييلية المعدَّلة وتتفاعل معها. وفي رواية "سلالات منقرضة" (منشورات الربيع 2022) للروائي المصري ملاك رزق، كان للمكان حضوره القويّ، فكيف أدى وظائفه!

أن تقرأ الرواية في زمن الحرب والموت في غزة، وهي التي تسرد أحداثًا في بيروت، في مخيّمَي صبرا وشاتيلا وتوثّق للمجزرة عام 1982، لهي مصادفة غير عادية، وأن يقرر كاتب مصريّ معاصر أن يعود لفلسطين والقضية، لهو أمرٌ مفاجئ ومدعاة للفخر والطمأنينة في آن معًا، ملاك رزق يحكي قصة أحمد الفلسطيني وسارة اليهودية، ويحكي قصة الداخل الفلسطيني حيث أفي الضابط من أصول أوغندية، ولكن القصة الأساس كانت قصة المجزرة، وقصة البحث عن بثينة الكفيفة خلال أيام المجزرة.

تبدأ الحكاية في الخليل أواخر تموز من العام 1975، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية قد بدأت قبل شهرين أو ثلاثة مع أحمد وجدته عامرة والمرأة الأميركية التي سيرافقها في رحلتها، تلك المرأة التي نعرف مع تقليب الصفحات وصولًا إلى نهاية النص بأنها سارة، التي أحبَّها أحمد ابنة أفي الضابط اليهودي من أصول أفريقية، وشقيقة يوسف الذي مات في عملية للفدائيين في إحدى عمليات احتجاز الرهائن اليهود، نقرأ رسائل لسارة إلى أحمد من أميركا، ونقرأ قصتهما معًا عندما تزوّجا وهربا أما بثينة الكفيفة والتي هي ابنتهما، فلا نقرأ في الرسائل ذكرًا لها، يشعر المتلقّي بأنّ في الأمر خللًا ما، ولكنه يدرك الأمر في نهاية الرواية المفاجئة.

قصص عديدة لفلسطينيين حكتها الرواية، ابراهيم وزوجته وولديه، وما رافق استشهادهم من أحداث في المخيّم، زينب وحبيبها المصري بخيت، وقصص البطولة التي تحيلنا إلى أنّ ما نشهده من بطولات اليوم كان، وما زال، وسيبقى ويستمر ما دامت بلادنا محتلة وشعبنا يموت ويُباد، تحكي قصصًا لمجزرة حكى عنها الكثيرون، في كتب التاريخ وفي نصوص الأدب وفي مقالات الصحف، ولكنها ما زالت مستمرة مع أدباء معاصرين من أبناء جيلنا، من مصر، حيث يظن الكثيرون أن القضية أصبحت تاريخًا قد يُذكر وقد لا يُذكر في أدبهم، فيأتي رزق ليقول لا، ما زالت بوصلتنا فلسطين، وتاريخها ومعاناة أبناء شعبنا، هناك في الداخل، وفي شتاتهم.

وبالعودة إلى فنيّة النص، وإلى التقديم المرتبط بوظائف المكان، أقول إنّ بعض المآخذ كانت لي على الرواية، فهي على الرغم من أسلوب كاتبها السلس والقريب من ذائقتي، البعيد عن التكلّف من ناحية، وعن الركاكة، ولأن الكاتب كان يعرف أنه لن يستطيع أن يعطي المحكية اللبنانية والفلسطينية حقهما، أبعد نصه عنهما، ولجأ إلى الفصحى البسيطة، وهذه من نقاط القوة وإحدى نواحي ذكاء الكاتب. أما اللغة، وهنا أريد أن أحمّل الكاتب والناشر المسؤولية، ومن وجهة نظري يتحملها الناشر بنسبة أكبر، فمن غير المقبول أن لا يتم تدقيق النص وتحريره كما يجب، ومن غير المقبول أن يتخللها أخطاء نحوية أو صرفية، وبعض أخطاء الصياغة كالتي مرّت، ولم تكن قليلة، إن تم تبرير ذلك بأنها قد تكون من تلك التي قد تمرّ سهوًا على الرغم من التدقيق.

أما المأخذ الرئيس، وأنا المتلقي اللبناني، العارف بالمكان وخصوصيّته، أقول إن استسهالًا من قبل الكاتب حصل في أثناء بحثه، ولأنه أراد التركيز على القصة والقضية والحدث، لأنه أراد تركيز تعاطفنا على الفلسطيني في النص، وقد نجح بذلك بشكل بارع، فقد أثّر بشكل كبير بالمتلقي، إلّا أن توثيقه للأمكنة كان فيه خلل كبير، فلبنان ليس منقسمًا شرقًا وغربًا على سبيل المثال، بيروت هي التي انقسمت شرقية وغربية أيام الحرب الأهلية، والكرنتينا ليست قرية، بل هي منطقة في بيروت، ولاسمها وتاريخه الكثير من الرمزية، جامعة بيروت العربية ليست جامعة بيروت، والكثير من تلك الأخطاء مرت... أما من قام بالمجزرة فهم القوات اللبنانية إلى جانب جيش الاحتلال، تلك القوات التي كانت تضم جميع الأحزاب اليمينية المسيحية، ومنهم ظهر حزب القوات اليوم.

هي رواية ضرورية في زمن ضاعت فيه القضية الأساس عند الكثيرين من المثقفين، يحتاجها أبناء جيلنا، كتبها واحد من أبناء هذا الجيل، قام بعمل جبّار وهو المصري الذي دخل مخيّم شاتيلا والخليل ورام الله من مكانه المصري، حصل بعض الخلل ولكن لا بأس، فالقضية وما يرتبط بها تعلو ولا يُعلى عليها. 

الأكثر قراءة

حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان