اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

إن ديناميات الصراع في لبنان اليوم ليست إلا تجلّيات صراع أزلي بين قوى الهيمنة والاستبداد وقوى التحرر والكرامة. فالمقاومة، في جوهرها، ليست مجرد رد فعل عسكري أو تكتيك مرحلي يهدف إلى درء العدوان؛ بل هي تمثيل جوهري للحق في السيادة الوطنية ورفض الإنصياع للإملاءات الإستعمارية بأشكالها الحديثة.

أمام مشروع طامح إلى ابتلاع الكيان الوطني وتفتيت النسيج الاجتماعي، تصبح المقاومة رد فعل عميق يتجاوز الحدود الجغرافية ليعكس التزامًا وجوديًا بصون كرامة الإنسان والأرض.

إن تاريخ الشعوب يعلمنا أن في كل لحظة من لحظات المصير، تتمايز المجتمعات بين من يحملون إرادة الفعل التحرري ومن ينغمسون في مستنقع الانهزامية والتواطؤ. وفي لبنان اليوم، تبرز هذه الثنائية بجلاء؛ فبينما تصمد المقاومة كدرع حامي للسيادة، تخرج أصوات تجرّ وراءها إرث الخيانة والتبعية، غير مدركة أنها إنما تُعيد تكرار مشاهد تاريخية مقيتة تعيدنا إلى صفحات ملطخة بالخيانة والتواطؤ مع قوى الاحتلال عبر العصور.

إذا ما تأملنا في مسار المقاومة، نجد أن هذه الحركات الثورية التحررية لا تُختزل في الفعل المسلح فقط، بل إنها تمثل امتدادًا لتاريخ إنساني أوسع يعيد تعريف معنى «الوطن» ومعنى «الخيانة». وفي لبنان، حيث تشن إسرائيل عدوانًا همجيًا على كل جبهة، تستمر المقاومة في تأدية دورها الوجودي، ليس فقط كقوة ردع عسكري، بل كمفهوم فكري وأخلاقي يُعيد بناء هوية الشعب ويضعه في مسار التاريخ الصحيح.

منذ بداية هذا العدوان، أثبتت المقاومة اللبنانية مرة أخرى أنها الدرع الذي يحمي هذا الوطن، والمدافع الأول عن كل شبر من أراضيه. ليست المقاومة مجرد رد عسكري محدود بالزمان والمكان، بل هي تعبير عن السيادة المستقلة والرفض التام للهيمنة الخارجية. عندما يقدم المقاومون أرواحهم في سبيل الدفاع عن الأرض والكرامة، إنما هم يرسخون مبادئ تتجاوز حدود الطائفة والمذهب، وتترسخ في الوجدان الوطني كحركة مقاومة شاملة تعبر عن جميع أطياف المجتمع.

ومع ذلك، في خضم هذا الصراع، تطفو على السطح مواقف مريبة من بعض اللبنانيين، مواقف تسعى إلى التماهي مع المشروع الإسرائيلي وتضعف الجبهة الداخلية. إن هذه الأصوات ليست مجرد آراء مختلفة، بل هي شذوذ أخلاقي وخيانة للمبادئ الوطنية الكبرى. البعض منهم لا يهاجم المقاومة فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك بمحاولة التحريض عليها، مضيئًا على أهداف عسكرية ومدنية بغرض مساعدة العدو في قصفها واستهدافها. وهناك من يتفاخر بعلاقاته مع العدو ومعرفته بمعلومات وخططه، في مشهد ينذر بالانحدار الأخلاقي ويعكس حالة من الانفصال التام عن المبادئ الوطنية. والبعض الآخر يحرض على أبناء وطنه من النازحين، متهمًا إياهم زورًا بأنهم مسلحون، في محاولة لتبرير قصفهم وإراقة دمائهم، وزرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد.

عبر تاريخ الصراعات، لطالما وُجدت فئات اختارت التواطؤ مع قوى الاحتلال على حساب أوطانها. أحد الأمثلة الشهيرة هو فيليب بيتيان في فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، الذي تعاون مع الألمان في قيادة حكومة فيشي العميلة. الخيانة هنا لم تكن مجرد مسألة فردية؛ بل كانت حالة تمرد على روح المقاومة الوطنية التي قادها شارل ديغول. وفي المقابل، يبرز مثال فيتنام، حيث واجه الشعب الفيتنامي الاحتلال الأميركي بصلابة تحت قيادة هوشي منه، بينما اختار البعض التعاون مع المحتل تحت راية فيتنام الجنوبية. في كلتا الحالتين، خلد التاريخ ذكرى المقاومين وألقى بالخونة في ظلام النسيان.

هذه الأمثلة التاريخية تؤكد أن التاريخ لا يغفر لمن يختارون طريق الخيانة، بل يخلد دائمًا أولئك الذين يقدمون أرواحهم في سبيل حريتهم ووطنهم. المقاومة ليست مجرد فعل عسكري؛ إنها منظومة قيم وأخلاق تعيد تشكيل الهوية الوطنية وترفض كل أشكال الاستعمار الجديد. إن من يهاجمون المقاومة اليوم إنما يتنكرون للحقائق التاريخية التي أثبتت أن الأمن والسيادة لا يُصانان إلا بالتضحية والصمود.

إن دماء الشهداء التي تروي أرض لبنان هي التي تضمن لهؤلاء الذين يهاجمون المقاومة حياتهم الآمنة في المدن والمنتجعات. أولئك الذين ينعمون بالرفاهية والحرية، لا يدركون أن هذه النعم هي ثمرة تضحيات المقاومين. التاريخ لا يرحم، ولا يخلد سوى من وقف في وجه الطغيان ودافع عن كرامة الإنسان. إن ما يجري في لبنان اليوم هو فصل جديد من فصول الصراع بين المقاومة التي تدافع عن الحق، وبين من اختاروا الوقوف في صف العدو، غير مدركين أن نهايتهم ستكون كنهاية كل من خان قضيته عبر التاريخ.

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة