اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

الرواية والتاريخ، والرواية التاريخية، واللعبة الروائية والتنقّل عبر الأزمنة، وغيرها الكثير من التقنيات ومن الطرائق والأساليب التي سيطرت بشكل كبير على حال الرواية العربية، وبالنسبة إليّ شخصيًّا، قرأت في السنوات الأخيرة الكثير من النصوص التي لجأت إلى التاريخ وإلى تلك التقنيات، وكان لي بعض الآراء والقراءات حولها، ولكن، عندما أنهيت قراءة رواية "ملمس الضوء" (منشورات المتوسط 2024) للإماراتية نادية النجّار، سيطر عليّ سؤال رئيس قُبيل الانتهاء منها والبدء بالكتابة عنها: متى يكون اللجوء إلى التاريخ في العمل الروائي حاجةً وضرورة؟

أبدأ مع قصة الرواية، وبمعنى أدقّ قصص الرواية، فهي تبدأ مع نورة العمياء، في المرحلة التي سبقت انتشار الوباء والحجر، ومع أيام الحجر نفسها، حيث تنتهي الرواية مع نورة بين نيسان وايار 2020، في أصعب أيام الوباء والإغلاق والحجر، نورة التي بدأت بذور علاقة بينها وبين قريبها سيف، الذي معه أيضًا تظهر الصور، صور الجدّ عليّ و "العكّاسة" (الكاميرا) وتظهر أوراق ماري حنّا، ومن هناك تبدأ كل الحكايات بالظهور.

تعرّفنا الرواية بالعلاقة المتوتّرة بين نورة وأمها، الأم التي لا تظهر إلّا قليلًا، ودورها الذي يكاد يكون منعدمًا لولا ظهورها للتأكيد على علاقة نورة بوالدها وجدّتها، ولولا ظهورها وهي تغنّي في نهاية الرواية، ولكنه يبقى غير مؤثّر في الأحداث والعلاقات الأساسية في النص. ومع علاقة نورة بسيف، تتوطّد علاقة أخرى بينها وبين جدّها سالم، التي تعود الرواية إلى بدايات القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى أن تصل بنا إلى يوم ولادة هذا الجد، وما سبقها من أحداث وعلاقات، ومعها نتعرّف الكثير من تاريخ الإمارات والبحرين، والمفاجئ في الرواية، أنها تعود إلى لبنان أيضًا، حيث بلاد ماري حنا صاحبة الأوراق، الجدّة الأولى، والعمياء الأولى في العائلة.

كلمة "مشتى" كان لوقعها عليّ شخصيًّا الشيء الجميل، وأنا أقرأ الكلمة من كاتبة إماراتية، قدّمت لنا نصًّا مشغولًا بعناية وذكاء وحنكة، من لغةٍ وأسلوب وقصص وعلاقات كثيرة ومتشعّبة، ولكن نادية النجّار حاكتها بأسلوب سلس وهادئ، لم يأخذ التاريخ حيّزًا كبيرًا مشبّعًا بالقِدَم، ولا أخذ الواقع ذلك الحيّز، بل كان التنقّل بينهما، بأسلوب اعتمدته الكاتبة، فيه من البراعة الكثير.

وعندما طرحت السؤال، أو طرح السؤال نفسه عليّ، كانت الإجابة واضحة في ذهني، إنّ لجوء الكاتب الإماراتي إلى التاريخ حاجة وضرورة مُلِحّة، وإن كان الكثير من كتّاب بلاد الخليج العربي قدّموا الكثير من هذه النصوص، إلّا أن الكاتب الإماراتي، يشبه بلاده ويشبه نهضتها، فهو ما زال في طور البحث عن شخصية أدبية أو فنيّة إن صحّ القول، وهو بلجوئه إلى تاريخ بلاده، وتعريف أبنائها، قبل القارئ العربي والغربي بها، لهو أمر مُلِحّ، وأمر واجب عليه، وهذا برأيي ما أدّته النجّار تجاه مجتمعها، وتجاه تجربتها الأدبية بوصفها واحدة من هؤلاء الأدباء، وهذا يُحسَب لها ولنصّها.

وبالعودة إلى النصّ وفنّيّته، لقد برعت الكاتبة في تصوير التاريخ بوصفه واقعًا قديمًا وليس تاريخًا بذاته، فقصّة عليّ، الذي تبدأ مع موت أخيه عبّود بالحريق الذي حصل في منطقة السيف في دبي في الثلاثينيات، عبّود الفتى الطيّب البسيط، والذي هرب لأسباب كثيرة أهمها عقدة الذنب التي صحبته إلى البحرين، وهناك عرفنا الكثير من تاريخ البحرين ودبي، أدّت تلك الأحداث وظيفتها التوثيقية والتاريخية على أكمل وجه من دون الإغراق في الرتابة والتأريخ والتوثيق، فقد عرفنا عن الشركات والمستشفيات والسيارات... وغيرها، وعرفنا عن الحرب وكيف وصلت قذائفها إليهم وتأثيرها في حياتهم وتجارتهم، وعن الجريدة وأفكارها، من خلال السرد، وكلها كانت في خدمة السرد وحركة الشخصية وعلاقاتها، فقد مرّ كل ذلك ونحن نتابع أخبار عليّ وعزيز ومطر، والعم ناصر وزواجه وماري حنا وحليمة، وفي النهاية زواج عليّ أخيرًا بجبيبته سارة وولادة سالم، جد نورة الذي تنتهي الرواية بموته أيضًا، "أبويه" سالم، الذي عرفناه مرافق نورة في أحاديثها وحواراتها، هي التي اعتادت مرافقة إفلين الفليبينية... الواقع بين الزمنين، لم يكن مراوحة بين التاريخ والواقع، بل قدّمته الرواية كأنه مراوحة بين واقعَين متقاربين، لأنّ العلاقة بين الزمنين داخل المكان كان علاقة ضرورية، وقد كان الأسلوب ممسكًا بالواقع المتبدّل بشكل فيه حرفية وحِنكة.

ملمس الضوء لا نلمسه كما نتوقّع مع نورة، على الرغم من أنّ الرواية تنقّلت في أبوابها وفصولها بين الصوت والرائحة والمذاق واللمس، وتنقّلت بين الصور ما سدره خيال الراوي عنها والأوراق وما قرأناه عن ماري حنّا، والسرد الآنيّ، والمتلقّي وهو يتنقّل بين كل ذلك، يحار هل أفلت العنوان من تفاصيل النصّ الجاذبة، فنسيت الكاتبة كما نسي هو علاقة العنوان بالمتن، ولكن ذكاء الكاتبة يستمرّ حتى صفحات النصّ الأخيرة، ولأنها أرادت لنصّها فرادة لم يكن لها مثيل، جعلت ملمس الضوء يظهر بشكل مفاجئ في أشهر مغارة من مغاور المشتى، مغالرة الضوايات، ومن يعرف تلك المغارة يعرف أن فكرة ملمس الضوء حاضرة في ذهن كل من يزورها، نعم ملمس الضوء بوصفه فكرةً ومفهومًا يظهر مع ماري حنّا، ومن هناك تكون النهاية، ولكنها تحيل المتلقّي إلى بداية النصّ، لتشكّل لديه عودة إلى بدايته، وهنا الجمالية بأبهى صورها.

النصّ استخدم مفردات من المحكية الإماراتية، قرأناها مع الكثيرين من الكتّاب من أبناء الخليج والبحر والصحراء، كانت مربِكة أحيانًا عندما شرحها النصّ في الإحالات، وهذه بالنسبة إليّ من المآخذ على النصّ الأدبي، فأنا أجد بأن لا مشكلة بأن تمرّ تلك المفردات، وليكن فهمها من خلال السياقات، أو من خلال اجتهادات المتلقّي إن أحبّ البحث.

أما النقطة الأبرز والأجرأ التي طرحتها الرواية، فهي الحديث عن سبب وفاة سعيد في مزرعته في الخوانيج، لأنّ ابن البلاد يعرف الكثير عن هذه الأمور، وعن أمور المخدرات والجرعات الزائدة التي يموت بسببها الكثير من الشباب، ولكن ذكاء الكاتبة بقي واضحًا أيضًا وهي تطرح قضية اجتماعية كبيرة، فهي مع ذلك، استمرّت بجعل أدبية النصّ ممسكة بزمام الأمور، فقد جعلت من تلك القضية سببًا لهروب سيف، وسببًا للخلاف العائليّ، وجعلت منها بدايةً لطَرح أكبر: المدمن واحد منّا، واحتواؤه بمحبتنا ومساعدتنا هي بداية الحلول، وليس الهروب منه ونبذه.

ملمس الضوء رواية بديعة لكاتبة تعرف ما تريد من تجربتها الأدبية، وهي بلا شكّ على السكّة الصحيحة. 

الأكثر قراءة

هل نجح ماكرون في مفاوضاته مع ولي العهد بن سلمان باعادة الاهتمام السعودي الى لبنان؟ مستشار ترامب للشرق الاوسط مسعد بولس اوضح قبول ادارة ترامب تحديد 9 كانون الثاني لجسلة انتخاب الرئيس الهجوم في سوريا هدفه الوصول الى الهرمل وتطويق الحزب