اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

"لكي نفهم منشأ الأعمال الفنية والأدبية لا بد من البحث في الجماعات الاجتماعية السائدة وفي البنية الكلّيّة للمجتمع"، يقول لوسيان غولدمان، ثم يضيف في موضع آخر إلى أنه يجب أن يستخلص الباحث عناصر الدلالة الموضوعية للعمل الأدبي، ويحاول بعد ذلك إقامة العلاقة بينها وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر، وهنا تأكيد على إضفاء الطابع العلمي على العمل الأدبي من دون فصله عن علاقاته بالتاريخ والمجتمع. ولأننا أمام رواية بحث صاحبها عن العلاقات والرمزيات، وربطها بالتاريخ والاجتماع والاقتصاد والدين، وربطها بمفاهيم الانتصار والهزيمة، وغيرها الكثيرة، كان لا بدّ من ذلك الكلام النظري، ذلك الكاتب هو محمد سمير ندا، وروايته "صلاة القلق" (منشورات مسكلياني 2024).

أنطلق من أهمية البحث والتمحيص وتتبع أحداث التاريخ والمفاهيم السائدة حول تلك الأحداث، والوهم الذي قد يكون ما زال مسيطرًا، تلك الأهمية التي يحتاجها الباحث، ولكن إلى أي مدى قد يحتاجها المبدع؟ قد يُغرِق التاريخ المبدع فيه فيأخذ من نصيب السردية والفنية، وقد يكون مصدرًا بسيطًا سطحيًّا فقط لا يُستغَلّ كما يجب، فيصبح النصّ واقعيًّا بلغة عادية ادّعى التاريخية، وقد يُصبِح نصًّا فريدًا وعميقًا، يجمع بين الفنية والسردية والعلاقات القوية والمواقف السياسية كما في هذا النص.

تبدأ الرواية مع قصة الشيخ جعفر، الوليّ العائد من الموت، والذي قدّسه ناسه ومن حوله، ومن بعدها تتوالى قصص الشخصيات، التي كثُرت، وأطالت حكيَها، حتى كاد المتلقّي أن يضيع بينها، تلك الشخصيات التي عرفنا قصة كلّ منها من خلال سردها المباشر، ذلك السرد الذي كان معنونًا بأنه جلسات، وفي كلّ جلسة نسمع شخصية تتحدث عن نفسها ومن حولها، والمرحلة والنجع والجميع، في الجسلة الأولى "نوح النحّال" ومن بعده محروس الدباغ ووداد وعاكف الكلاف ومحجوب النجار وشواهي وزكريا النساج وجعفر الولي الذي تنتهي الجلسات معه، وتبدأ تدخلات الراوي ومن بعده تنتهي بالأوراق العشرة التي يكتبها حكيم لطبيبه النفسي.

كل الشخصيات هم من أهل "نجع المناسي"، الذي يسقط على حدوده ما ظنّه الناس انفجارًا أو شهابًا أو صاروخًا ومعه أضاءت الدنيا، ذلك النجع الذي أُوهِم ناسه المصابون بوباء نعرف ما هو في النهاية مع الوثيقة التي ضمّتها الرواية، والذي تسبب بصلعهم، ما عدا شواهي وحكيم، واللذان يستطيعان الهرب في النهاية، والأهم هو ما أُوهِم به أهل النجع بأنه محاط بحقول ألغام، لذا لا يمكنهم مغادرته.

تحاسب الرواية مرحلة تاريخية ممتدة منذ النكسة عام 1967 وحتى العام 1977، ربطتها بذلك النجع، الذي وُصِف أهله بالمرضى والمجانين، لتقول الكثير، ولتؤكّد على استمرار الكثير حتى أيامنا الحاضرة. ولأنّ الأحداث المرتبطة بالشخصيات كثيرة، منها ما ارتبط بابن النحّال وثورته، والأخوة الثلاثة الذين قرروا التطوّع في الجيش والهرَب، ومن مات من أطفال قتلتهم وداد، ولعلّ الأبرز هي قصة والدة حكيم، زوجة الخوجة، التي نعرف الكثير عنها وعما أصابها وأصاب حكيم عندما قُطِع لسانه، في نهاية الرواية.

لقد ركّزت الرواية على هؤلاء، وعلى السرد المرتبط بهم، وكشفت سرًّا مرتبطًا بكلّ منهم، نفهم فيما بعد ما حصل عندما نقرأ عن حالاتهم النفسية، والتي لم نتبيّنها في أثناء السرد، كمضاجعة الحيوانات أو الابنة المعاقة أو وأد الأطفال غير الأصحاء عند ولادتهم، وغيرها الكثير مما كا يُفتَضَح، ولعلّ أبرزها، ما صرّح به جعفر الوليّ، حول الشكّ الذي سيطر عليه، حيث شكّ بكل مبادئه ومقدساته، هو الذي أعلنه الناس وليًّا استنادًا إليها، أي إلى ما لم يعد مقدّسًا بالنسبة إليه، وهنا واحدة من أعمق المفارقات في النصّ.

أعيد تكرار أنّ التفاصيل كثيرة، ولكن سأركّز على بعض الرمزيات. خليل الخوجة والوهم الذي جعل الناس يحيَون به، وبقي مسيطرًا لسنوات عدة على الرغم من أن كذباته واضحة ولا تحتاج إلى الكثير لتأكيدها. خليل الذي باع الناس أوهام النصر وأنه لا شيء يعلو فوق صوت المعركة، هو فعليًّا كلّ مَن حكم بلادنا بالوهم، ولعلّ الرواية وصاحبها أراد التركيز على شخصية عبد الناصر، والتي ما زالت محاطة بهالة من التقديس، هذا الأمر الذي أخذه النصّ على عاتقه ليفتح الأبواب أمام المحاسبة وإعادة القراءة لكلّ المسلمات والمقدسات.

وداد ومواقفها من الأطفال المعاقين، أيضًا كانت رمزيتها صارخة، فمصر التي أصبح تعداد سكانها فوق المئة مليون، ماذا لو كانت نسبة الولادات فيها أقل، وهنا محاورة كبيرة يجريها القارئ مع أخلاقه وكل ما يرتبط بها حول هذا الأمر، والكثير غيرها. أما أهمها فهو حكيم، الطفل الذي تركته أمه، وقطع لسانه، حكيم الذي نكتشف بأنه صاحب الجسات، والذي تبنّى الحديث على لسان الناس، فأصبح لسانهم وهو الذي لا يملك لسانًا، وصاحب الأوراق، وهو من كان يكتب على بيوت الناس الأميين فضائحهم، حكيم الذي تحتاجه مصر، وكلّ بلاد ابتليَت بالوهم، حتى وإن كان لسانه مقطوعًا، وصوته أُخرِس حتى لا ينطق بالحق، وجد السبيل وكتبَ، فضَح المستور، بحثَ وفكَّر ووجد الراديو، أحبَّ وهربَ وأقام علاقة مع من أحبّ، وعلى الرغم من أنّ حاله النفسية غير سويّة، لكنه على الأقلّ حاول وقام بما عليه في مواجهة القلق والوهم والتزييف والخداع، وهو ما توجّهنا إليه الرواية، بأن نقوم بما علينا فعله، مع النقص وقلة الحيلة والخوف والقلق... ولكن على الأقل فلنحاولْ.

مأخذ واحد على النصّ مرتبط بخاتمته، فتقرير الطبيب الذي شرح كلّ شيء، لم يكن مبرَّرًا، وفيه تبسيط لكلّ ما ورد، فمن وصل من القرّاء إلى نهاية هذا النصّ الصعب، أصبح من السهل عليه التحليل وفكّ الشيفرات وردّ الأمور إلى ما هو توثيقيّ وما هو واقعي وما هو خيالي، أمّا وأن يخبرنا الكاتب بكلّ الإجابات في النهاية، ولا يترك للمتلقّي المجال للتخييل المستمرّ، فهو أمر لم أجده مقبولًا. وثيقة جريدة الأهرام كانت ضرورية، أما التقرير فلا.

هي رواية من النوع الثقيل، محمَّلة بهموم كثيرة لم يرِح الكاتب نصّه منها، حرص على أن يبثّها جميعها في نصّ واحد، وهو الذي كان يمكن أن ينتظر فيقسّم قضاياه على نصّه هذا ونصوص لاحقة، إلّا أنه خاض في معترَك صعب، ومراوحة بين البحث والفنيّة والجذب والإمتاع، خاض في أمور السياسة والاجتماع والدين، ولم يتعب في حبك قصصه ولغته وأسلوبه من ضمن خطوات مدروسة، يُحسَب له كيف استطاع الاستمرار في أن يخطو كلّ خطوة بدقة ما قبلها، وأوصل لنا نصّه بهذا المستوى. 

الأكثر قراءة

حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان