اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


رغم صغر مساحته، يتميز لبنان بعظمة تاريخه الثقافي ومعالمه الاثرية التي تعود الى قرون مضت، ما جعله ملتقى لحضارات متعاقبة وأيقونة للتراث الإنساني. لذلك، يرى اللبنانيون في آثار بلادهم قصصاً تمتد آلاف السنين، من العصر الفينيقي مروراً بالروماني والإسلامي وصولاً إلى العثماني، تحاكي بأطلالها أصالة وثقافة تمتد عبر العصور. اليوم، تتعرض هذه المعالم الثمينة، ومن أبرزها بعلبك وصور واحياء قديمة في الضاحية الجنوبية، وقانا، والشياح وحتى مقبرة الباشورة في بيروت، لتهديدات متزايدة نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، مما يطرح تساؤلات حول دور المعنيين في حماية هذا التاريخ العتيق الأصيل وما إذا كان القانون الدولي يقف الى جانب لبنان في مواجهة هذه الانتهاكات.

مدينة الشمس وعاصمة

المهرجانات "راسخة"

بعلبك، التي تُعرف بـ "عاصمة الحضارة الرومانية، و "مدينة الالهة" و "لؤلؤة البقاع"، تُعدّ من أبرز الشواهد التاريخية في لبنان. بناها الرومان تكريماً لآلهتهم، وتشمل معابد ضخمة، كمعبد جوبيتر بأعمدته الشهيرة، التي تروي قصصاً عن حقبة مزدهرة في القرن الأول قبل الميلاد. ورغم مكانتها كعاصمة للمهرجانات اللبنانية، تواجه بعلبك اليوم تحديات أمنية شديدة أدت إلى نزوح ما يقارب 70% من سكانها. مصدر في وزارة الثقافة اللبنانية يوضح لـ "الديار" ان "مدينة المعابد" أصبحت مهددة بشكل مخيف ومتصاعد، حيث تعرضت آثارها للإيذاء نتيجة الاعتداءات المتكررة، مما يجعلها مكشوفة ويضع معالمها العريقة في خطر الفقدان".

إلى جانب المعابد الرومانية، تضم بعلبك أصول أخرى معرضة للاعتداءات، كمنطقة رأس العين التي تحتضن آثاراً من العصور الوسطى والعصر العثماني، بالإضافة الى قبة دورس ومسجد المعلق، ويُعرف أيضا باسم جامع رأس الإمام الحسين، ويُعتبر من المعالم التاريخية المهمة في المنطقة. واسم "المعلق" يُستمد من موقع المسجد، حيث يُعتقد أن المسجد كان مبنيا على جسر معلق فوق البرك المائية في منطقة رأس العين. ويقال إن هذا المسجد قد تم تشييده في العهد الفاطمي في القرن الحادي عشر الميلادي، ويُعتبر من أقدم وأهم المساجد في بعلبك. هذه المواقع التي ترمز لتعدد الثقافات والتأثيرات التاريخية في المنطقة، تقف اليوم أمام خطر حقيقي نتيجة موجات الانفجارات.

تراث حي وأحياء عريقة

وتحتوي بيروت، العاصمة النابضة بالحياة، على مقبرة الباشورة، إحدى أقدم المقابر التي تعود للحقبة العثمانية وتعرف أيضاً بـ "قبر عمر"، التي تأوي شخصيات بارزة من التاريخ العثماني، لكنها تعرضت مؤخرا للقصف، مما يُخشى ان يتسبب في تخريب ما تبقى من هذا التراث. وتحتضن ست الدنيا احياء تاريخية كالجميزة وزقاق البلاط، وهي اطلال حية على الاندماج الثقافي الذي عرفته المدينة عبر العصور.

المدينة الفينيقية العظيمة

من جهته، يقول أحد أساتذة مادة التاريخ لـ "الديار": "تعتبر صور شاهداً حياً على عظمة الفينيقيين الذين أسسوا مستعمرات ازدهرت في أنحاء البحر الأبيض المتوسط. وهي ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو وتحوي معالم أثرية فينيقية ورومانية، بما في ذلك مسرح روماني ضخم وقلعتها البحرية الشهيرة. مضيفا، تعاني عاصمة الفينيقيين اليوم من تهديد حقيقي، نتيجة القصف المتكرر الذي جعل العديد من المعالم التاريخية مهددة بالزوال".

وزير الثقافة يدعو المجتمع الدولي

للتدخل لحماية التراث الثقافي

في خطوة هامة، وجّه وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، محمد وسام المرتضى، نداءً عاجلاً إلى مجلس الأمن والمجتمع الدولي، مطالبا بالتدخل لردع إسرائيل عن تنفيذ تهديداتها بقصف قلعة بعلبك، مشيراً إلى أن هذا المعلم التاريخي يشكل جزءا من الإرث الثقافي العالمي، وقد تم إدراجه على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

وأوضح في تصريحاته أن "التهديد الإسرائيلي يعكس العقلية ذاتها التي دمرت تماثيل بوذا، ويجب أن يعامل المجتمع الدولي إسرائيل على هذا الأساس". كما دعا وزير الثقافة الزوار والعاملين في القلعة والمقيمين في محيطها إلى ضرورة إخلاء المنطقة واتخاذ كافة الاحتياطات لحمايتهم وحماية هذا المعلم التاريخي".

أثر افساد الآثار في الهوية الوطنية

وفي سياق متصل، يكشف عدد من علماء الآثار والمؤرخين والخبراء القانونيين لـ "الديار" عن التأثير العميق الذي ينجم عن تدمير الآثار في لبنان والمنطقة، مؤكدين أن الحاق الضرر بالآثار عن عمد لا يعد مجرد اعتداء على هياكل قديمة فحسب، بل هو خطوة استراتيجية تهدف إلى محو الهوية الثقافية للأمة، وحذف الذاكرة الجماعية التي تمثلها هذه المعالم التاريخية.

ويشرح أستاذ آثار متخصص في حضارات الشرق الأوسط من الجامعة اللبنانية "ان "الآثار ليست مجرد حجارة وأعمدة، بل هي ذاكرة الشعوب، حيث تحكي كل قطعة أثرية قصة حضارة ودين وتاريخ. وعندما يُستهدف هذا التراث بشكل متعمد، فإننا لا نفقد فقط ما تبقى من ماضينا، بل نخسر جزءا من هويتنا كأمة. تدمير الآثار هو  إغلاق لصفحة كاملة من الكتاب الذي يروي تاريخ الشعوب".

ويضيف "الآثار هي الواجهة التي تعكس التنوع الثقافي والتاريخي. وعندما يتم تدميرها، فان ذلك يعني طمس حقائق تاريخية وتعميق الهوة بين الأجيال. في بعض الحالات، يمكن أن يُعتبر التدمير عملاً مقصودًا لفرض الرواية التاريخية على حساب الحقيقة".

القوانين الدولية لتحصين التراث الثقافي

من جانبه، يشير مصدر في وزارة الثقافة لـ "الديار" إلى أن هناك قوانين دولية تحظر اتلاف الممتلكات التاريخية، خصوصا اثناء النزاعات المسلحة. وبحسب اتفاقية لاهاي لعام 1954، فإن تدمير الموجودات الثقافية أثناء الحروب يعد جريمة دولية. لكن للأسف، في العديد من الحالات، تُنتهك هذه القوانين دون محاسبة، مما يترك شعوبا كاملة في مواجهة خطر ضياع تاريخهم إلى الأبد".

ويتابع "تعرضت العديد من الاصول الأثرية الهامة في لبنان، بما في ذلك مدينة بعلبك وصور، لتهديدات جسيمة خلال الاعتداءات العسكرية المستمرة منذ عدة أشهر، مما جعل الخبراء في مجال الثقافة والآثار يطالبون بتدخل المجتمع الدولي لحماية هذه المواقع".

التدمير: بين السياسة والثقافة

في موازاة ذلك، يؤكد الخبراء أن افناء الآثار ليس مجرد محاولة هدم مادي فحسب، بل هو عملية سياسية تهدف إلى محو ذاكرة الأمة، وصياغة واقع جديد بعيد عن جذور الشعوب. في هذا السياق، يعتبر التدمير المدروس للبقايا الثقافية خطوة استراتيجية تهدف إلى فرض سرد تاريخي مختلف، مما يفاقم الانقسام بين الأجيال ويضعف الهوية الثقافية للأمم.

ضرورة التحرك الدولي

بناءً على هذه المخاطر، يطالب الخبراء بتحرك عاجل من قبل المجتمع الدولي لحماية التراث الثقافي البشري من التحديات التي قد تهدد وجوده. فهم يعتبرون أن حماية المواقع التاريخية والثقافية لا تقتصر على لبنان فقط، بل هي مسؤولية دولية تهم الإنسانية جمعاء.

دور المجتمع الدولي

يحق للبنان، بموجب الاتفاقيات الدولية، رفع شكوى للمطالبة بحماية تراثه، وتشمل هذه الاتفاقيات اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية، واتفاقية اليونسكو للتراث العالمي، واتفاقية جنيف، التي تضمن جميعها حماية هذه المواقع خلال النزاعات المسلحة.

الأكثر قراءة

الميدان مفتوح حتى 20 ك2 وترامب يتجه الى «الحرب الناعمة» صواريخ المقاومة تحيي توازن الردع وتصل الى وزارة الدفاع «الإسرائيلية» "الإسرائيليون" يلوذون الى الملاجئ و12 قتيلاً في كمين للمقاومة مع انطلاق المرحلة الثانية