اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في ظل العدوان الإسرائيلي المستمر على لبنان، تخرج بعض الأصوات السياسية لتطرح تساؤلات حول مدى فعالية المقاومة في ردع هذا العدو. يستند هؤلاء إلى مشاهد الدمار ونزوح المدنيين، معتبرين أن المقاومة قد "فقدت ورقة الردع" التي بُنيت عبر سنوات. لكن هذه الرؤية تغفل تفاصيل أساسية حول طبيعة الردع، وتهمل حقائق تاريخية تثبت أن الدمار وحده ليس معيارًا للحكم على نجاح أو فشل أي حركة مقاومة.

في العلم العسكري، يشير الردع إلى القدرة على منع العدو من تحقيق أهدافه أو تقييد حركته، وغالبًا ما يكون فعّالًا قبل اندلاع الصراع المباشر. لكن حين تبدأ المواجهات، يتحول الردع إلى فعلٍ ميدانيّ يُقاس بمدى تحقيق الأهداف الاستراتيجية، وليس بعدد المباني المدمرة أو المهجّرين.

أحد أبرز مظاهر فعالية المقاومة اليوم هو نزوح مئات الآلاف من المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة، الذين اضطروا لمغادرة منازلهم هربًا من ضربات المقاومة بالصواريخ والطائرات المسيرة. هذه الحالة تحمل دلالات عميقة حول مستوى زعزعة الأمن في الداخل الإسرائيلي، وتظهر أن الردع قد تحوّل إلى واقع يومي يعايشه المستوطنون في حياتهم. ولا تقتصر التأثيرات على الناحية الأمنية فقط، بل تتجاوزها إلى تكبيد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة نتيجة تعطل الأعمال، وتكاليف الحماية على الجبهة الداخلية، ما يُضعف من تماسك البنية الاقتصادية والمجتمعية ويجعل الحديث عن "أزمة وجودية" أمرًا مطروحًا بشكل متزايد داخل إسرائيل.

من خلال النظر إلى التاريخ، نجد أن حركات المقاومة لم تكن يومًا مطالبة بمجاراة جيوش العدو في العتاد والقوة النارية. ففي ستالينغراد، خلال الحرب العالمية الثانية، دُمّرت المدينة بشكل شبه كامل تحت وطأة القصف الألماني، لكن هذا الدمار لم يكن سببًا لاستسلامها، بل دافعًا لتثبيت أركانها، مما أجبر القوات الألمانية على الانسحاب وكسر هيبتها. الدمار في هذا السياق لم يكن دليلاً على الضعف، بل على الصمود.

تجربة المقاومة في فيتنام تُلقي الضوء على هذه الحقيقة؛ لم يكن لدى الفيتناميين أمل في مجاراة قوة الولايات المتحدة، لكنهم نجحوا في استنزاف جيشها على مدى سنوات حتى اضطرته الحرب النفسية والعسكرية إلى الانسحاب. الدمار الذي لحق بفيتنام لم يمنعهم من تحقيق هدفهم الأكبر في التحرر.

وكذلك، نجد نموذج المقاومة الجزائرية في وجه الاحتلال الفرنسي، حيث استمرت رغم الدمار والقمع الوحشي بحق الشعب الجزائري، وتمكنت من استنزاف العدو حتى أُجبر على التفاوض والانسحاب.

اليوم، يعيش الكيان الإسرائيلي حالة مشابهة، حيث يتزايد الحديث داخله عن تهديد وجودي حقيقي يتسبب في تفكك الثقة بين المستوطنين وقيادتهم. المقاومة لم تسعَ إلى مجاراة الجيش الإسرائيلي في قوته النارية، بل اعتمدت على تكتيكات استنزافية تهدف إلى ضرب نقاط ضعف العدو، وإثبات أن حسابات الردع الفعّال لا تتطلب دائمًا التكافؤ في القوة النارية، بل التركيز على قدرة المقاومة على تغيير معادلات الحرب، وفرض واقع جديد يزعزع بنيان العدو من الداخل.

يبقى السؤال الجوهري: كيف يُقاس النصر في الحروب؟ إن النصر لا يُقاس بعدد المباني التي تبقى قائمة، بل بمن يحقق أهدافه الاستراتيجية. المقاومة تسعى إلى حماية الأرض وكسر مخططات العدو، بغض النظر عن كلفة الدمار. الإعلام العبري ذاته يعترف بأن الكيان الإسرائيلي يواجه خطرًا وجوديًا، حيث بات المستوطنون يفقدون الثقة بقيادتهم، ويتسرب إليهم شعور بأن هذا الكيان قد لا يصمد أمام الاستنزاف طويل الأمد.

الانتصار لا يُقاس بعدد الضحايا أو بحجم الدمار، بل بمدى القدرة على توجيه مسار الحرب وإجبار العدو على إعادة حساباته. اليوم، المقاومة تثبت أنها قادرة على تحويل كل ضربة إلى عنصر في معادلة الردع المستمر، وتضع العدو في مواجهة أزمة وجودية غير مسبوقة. إنها حرب على مستوى السيادة والإرادة، تثبت فيها المقاومة أن الردع لا يُقاس بإبقاء كل شيء على حاله، بل بقدرتها على زعزعة العدو وإجباره على إعادة حساباته الأساسية.

وفي الختام، نقول لهؤلاء المشككين أن يوفّروا وقتهم الثمين من ضياعٍ في تحليلات ومواقف ينسجها خيالهم الواسع، وأن يوجهوا أنظارهم نحو الميدان حيث تُكتب الحقيقة ببطولات المقاومين وتضحياتهم، وأن ينتظروا نتائج هذه الحرب التي لا تزال مستمرة بدلًا من استباقها بتحليلات قد تخسرهم الكثير. إن هذا الانتصار القادم سيُهدى هذه المرة لأهله فقط، لأولئك الذين وقفوا وساندوا وصمدوا، ولن يكون كعام 2006 حين أُهدي النصر لكل اللبنانيين، بما فيهم من تواطأ وتخاذل وطعن. لذلك، أعيدوا حساباتكم جيّدًا، فلن يُسمح لكم هذه المرة بركوب موجة الانتصار.

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة