اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


مَن قال إننا نحتاج إلى العودة مئات السنوات للحصول على أصول حكايات الأمثال وأصول الحكايات الشعبية، فـ"حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة" حصلت عام 1973، وهي حكاية، قضية، غموض، من نوع جديد للحكايات الشعبية، هي حكاية تجعلنا نفكّر كثيرًا بأصول حكاياتنا، وكم يمكن أن تكون ذات أصول مأسوية، أو سياسية انتقامية، وغيرها الكثير. أحيَت إيناس حليم قصة تلك السيدة، ونشرتها في روايتها الصادرة عن دار الشروق عام 2023.

تبدأ الرواية مع شادن في غرفتها في الاسكندرية يوم 17 يوليو 2002، وتنتهي بعد عام، في 17 يوليو 2003، في الغرفة نفسها، فما الذي قدّمته لنا الرواية خلال هذه السنة؟ وهل عرفنا معها حكاية السيدة، فالعنوان أوهمنا بقراءة قصتها، إلا أن ذلك الإيهام كان غايةً بذاته، فيه حرفية امتلكتها الكاتبة وأظهرتها بشكل قويّ. فنحن حين كنّا نتابع حركة شادن في أثناء بحثها عن حقيقة السقوط في الحفرة، أخذتنا إلى مصر وأدخلتنا في متاهات كثيرة وطرحت أسئلتها وحاولت مناقشة تلك الأسئلة على ألسنة شخصياتها.

شادن بدأت بحثها بطلب من أمها، الفنانة، والزوجة التي خانها زوجها الفنان التشكيلي، تلك العلاقة التي نعرف تفاصيلها أوّلًا بأول من خلال رحلة البحث تلك، الأم/الكاتبة العظيمة، والتمييز الذكي في أثناء الحديث عن إحداهما بشكل منفصل، كان نقطة أساسية بنت عليها إيناس حليم نصّها، وهي أنّ الإنسان يمكنه التعامل مع الشخص نفسه بصيغتين مختلفتين، إن هو قرر ذلك ووجد مبرراته، فلمَ لا!

تظهر قصة ماما ماري، جدة شادن، الفتاة المسيحية التي هربت مع زوجها المسلم، الجدّ الذي يظهر أيضًا بشكل عفويّ وهادئ، والجدّة نفسها يكون لحضورها دور في تكوين شخصية شادن وقصصها وسعيها، وقبولها ما حصل بين أمها وأبيها، وهنا تركيز على دور الاحتضان إن تمّ من الشخص المناسب وأهميته في تخطّي الإنسان أزماته ومشكلاته... ولكن كلّ ذلك كان يمرّ بشكل سلس وبانسيابية خلال السرد ليقودنا إلى قصة تلك السيدة، التي تخدعنا الرواية، إن كنا لا نعرف القصة الحقيقية، بأنها ستحوي قصّة من الخيال، أو واقعية سحرية، أو خرافة أو غيرها، ولكن كل ذلك لا يحصل، ونبقى مع رحلة البحث، وما يرافقها من تصوير للمجتمع المصري واختلافاته.

مرور الحديث عن الكنائس والمسيحيين أو الأقباط في مصر، جاء بشكل مدروس ومتقَن من الكاتبة، وكان مقصودًا القول إن هؤلاء هم أساس في نسيج المجتمع، فجاء ذِكرهم من دون أن نلحظ بأنه مقصود للإضاءة على فئة لديها مشكلات، فكان مكوّنًا أساسيًّا من نسيج النص، وهنا نقطة ذكية بعيدة عن السائد، لتصل إلى المتلقي فكرة أن الأمور طبيعية، هي ليست طبيعية في الحقيقة، ولكن ها هي ببساطة وسلاسة، طبيعية وغير ملاحَظة.

في الجزء الأخير من النصّ تأتي المفاجأة، لمن لا يعرف الحكاية، حيث نعرف أن زوجة أنور الأولى، أنور الصحفي والنقيب، وزوج ميرفت، السيدة التي وقعت في الحفرة، هي رشيدة مهران، عشيقة ياسر عرفات، وهم بالفعل أشخاص حقيقيون، والصحفي مفيد فوزي حقيقي، ومن يعرف، أو يبحث عن كاريكاتور ناجي العلي الذي انتقد رشيدة مهران، وردود الأفعال في حينها، والاتهامات بشأن استشهاده، يدرك أن إيناس حليم أرادت الحديث عن قضايا كثيرة، وعندها يعيد تشكيل آرائه حول الرواية، ويبدأ من جديد.

شادن أرادت كتابة رواية عن تلك المرأة، ميرفت، بطلب من والدتها، التي حاولت كتابتها وفشلت، وراوية، الجارة والصديقة، ساعدتها، وماما ماري ساعدتها، حتى موظفات الأرشيف، ساعدنها، وإن على مضض، فكأن تشكّلًا نسائيًّا أرادته الرواية أن يتكوّن من مختلف انتماءات نساء المجتمع المصري، ليعود إلى التاريخ، ويطرح أسئلته ويحاسب ويبني، فالكشف يضيء أمامهنّ الكثير. ولكن تأتي الصدمة مع ظهور رشيدة مهران، وكلّ التفاوت بالآراء حول شخصيتها ودورها وكتبها حول عرفات، فتكون المرأة التي سقطت في الحفرة، المظلومة البريئة الباحثة عن الزواج والاستقرار، في مواجهة هذه الشخصية الإشكالية، وهنا مكمن الصراع الذي أرادت حليم خوضه، فمن هي المرأة المصرية التي بقيت واستمرّت.

بدأتُ الكلام عن الحكايات الشعبية، وفي مجتمعاتنا العربية يمكنك ردّ الكثير من الأحداث إلى الجنّ والماورائيات بشكل سهل وبسيط، ولكن ما قاله الشاهد الوحيد بأنه رأى سيارة تخطف المرأة وتخرج بها من شارع النبي دانيال، أليس هو الحل البسيط والأقرب إلى العقل، أليس هو ما أرادته الرواية، أن تقول إنّ العقل جاهز ولكن أعملوه، وإنّ الحفرة وهم، كما الكثير من الأوهام التي أرادها لنا المتحكّمون بالقرار أن نعيشها، أوهام العروبة والانتصارات والاشتراكية وغيرها الكثير، فقد حضر عبد الناصر والسادات في النص، ووجّهنا النصّ لنسائلهما ومن مثلهما. فرشيدة قد تكون أمرت بخطف زوجة زوجها الثانية، أو قد تكون عائلة أنور التي اعتبرت أنها تفوق عائلة ميرفت على المستوى الاجتماعي هي من أمر بخطفها، ولكن لا، قامت الدنيا وقعدت وحفروا الطرقات ولم يجدوها. فالوهم إن سيطر بتوجيهات من يريدون سطوته وسيطرته، سيجعلنا نظلّ نحفر عن الحقائق في الأماكن الخطأ، حتى لا نجد الحقيقة أبدًا.

لغة حليم متماسكة وجذلة، ولكنها أكثرت من الوصف. الوصف مطلوب وتفاصيله مفيدة في أماكنها إن اختيرت بعناية، ولكن الإغراق في الوصف، لكلّ الأمكنة والشخصيات، أعاق السرد أحيانًا وأبطأه من دون مبرّر مقبول.

وقبل أن أنهي، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثقافة الكاتبة واضحة في نصّها، وهي ثقافة متأصلة، ليست كالثقافة السطحية التي يوهمنا فيها البعض، وتكون مجرّد أبحاث عن معلومات تخدم النصّ الأدبي، بل هي ثقافة تظهر بين السطور، تعطي المتلقي معلومة من هنا وفكرة من هناك بما يفيد بنائية النص والحكاية، من دون تباهٍ، ولغايات تخدم الفنية والقضية، ولعلّ أبرز القضايا المطروحة، متعلقة بثقافة الشعب، وما يرتبط فيها من وهمٍ مقصود.