اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في لبنان، مع تصاعد القصف والإنذارات بإخلاء المباني، يتكشف مشهد يتكرر كثيرا. عند صدور التحذير، نرى الناس يتجمعون في مكان بعيد نسبيا عن المبنى المستهدف، لكن ليس بهدف الاحتماء، بل لمراقبة الحدث أو تصويره. هذا السلوك الذي قد يبدو للكثيرين مغامرة أو تهورا، يعكس أبعادا نفسية واجتماعية عميقة.

وقد يقول البعض إن اللبناني قد فقد عقله، بينما يعتقد آخرون أنه يحمل إيمانا وقوة جبارة تفوق كل الاحتمالات، وكأن كثرة الأهوال جعلته يواجه الواقع بروح التمرد. ومع ازدياد وطأة الحرب، تتردد في كلام اللبنانيين جمل شرطية تعكس حالهم: "إذا عشنا"، "إذا قدرنا نكمل"، "إذا سلمنا من هذا القصف". وكأنهم سلّموا بأن مصيرهم معلق بين الموت والمأساة.

ورغم ذلك، يبقى هذا الشعب فريدًا؛ ففي النهار يشاهد الغارات تسقط، وفي الليل يحتفل بالحياة. هذه المفارقة العجيبة ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج عقود من المعاناة مع نظام سياسي متصدع، تعددية طائفية، أزمات اقتصادية خانقة، وفساد متجذر. لذلك، لا يبدو غريبا أن نرى اللبنانيين يتهافتون لالتقاط صورة لغارة تدمر منزلًا هنا أو صاروخ يهدم مجمعا هناك. إنها محاولة لتوثيق الألم والصمود، وكأنهم يريدون أن يقولوا الى العالم: "نحن هنا، نرى ونعيش، وننتظر المجهول بصدور عارية، ولن نكتب وصيتنا ونرحل قبل ان يأذن الله بذلك."

وقد تابعت "الديار" هذا السلوك الميداني عبر مراقبة وتحليل عشرات المقاطع المصورة التي اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي وتصدرت الوسائل الإعلامية، تسجل لحظات سقوط الغارات التحذيرية أو التدميرية على مبانٍ ومناطق مختلفة. واللافت أن هذه الأشرطة المرئية لم تخلُ من هتافات تعبر عن الإيمان أو التحدي، مثل "يا زهراء"، "يا علي"، "الله أكبر"، "يا فاطمة"، و "يا أبا الحسين". والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هي قوة إيمان بالقضاء والقدر، أم تحدٍ للواقع والخطر؟ هل يعكس هذا المشهد مقاومة نفسية وشجاعة جماعية، أم اعتيادًا على المخاطر يجعل اللبنانيين فريدين في طريقة تعاملهم مع المآسي؟

شهادات

يروي حسن (40 عاما)، أحد سكان الضاحية الجنوبية، لـ "الديار" تجربته قائلاً: "عندما سمعنا الإنذار بإخلاء المبنى، لم أستطع الابتعاد كثيرا، تجمعنا مع بعض الشباب في ساحة قريبة، كنت أريد أن أرى ماذا سيحدث، وشعرت أن الوقوف هناك يخفف من خوفي، وكنت أقول لنفسي: إذا حدث شيء، على الأقل سأعرف كيف بدأ".

أما ريما (28 عاما)، التي تعيش في مدينة صور، فتتابع ما يجري على الأرض من بلكونة منزلها الشاهق، فتقول: "في كل لحظة اراقب من الشرفة مكان سقوط الصاروخ. لا أعرف لماذا افعل ذلك، ربما لأننا نعيش هذا الواقع منذ سنوات طويلة. شعرت أنني أريد أن أكون شاهدة على ما يجري بدلاً من الهروب. لكن في المقابل، أدرك أن هذا تصرف جنوني، لان هناك شيئا ما بداخلي رغم الرعب يشدني الى متابعة الأحداث والصور الحية. ربما أردت أن أشارك أولئك المستهدفين رعبهم مهما كان الثمن واؤمن انه لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا".

تصرف خطر... لكن!

توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية غنوة يونس لـ "الديار" أنه "في لبنان اليوم، ومع تصاعد القصف والتنبيهات لإخلاء المباني، يظهر مشهد يتكرر كثيرا عند صدور الإنذار، يتجمع الناس في مكان بعيد نسبيا عن المبنى، لكن ليس بهدف الاحتماء، بل بهدف مراقبة الحدث أو تصويره. هذا السلوك، الذي قد يبدو للبعض غير مألوف، يحمل في طياته أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة، ويتساءل العديد من الناس كيف يمكنهم القيام بمثل هذه الأفعال".

وتقول يونس: "يمكننا التطرق إلى أكثر من تفسير لهذا النهج:

1. حب الاستكشاف والاستطلاع: الإنسان بطبيعته كائن فضولي، ففي الأوقات العادية، يدفع الفضول الناس للبحث عن معلومات أو متابعة الأحداث من بعيد. ولكن اثناء الخطر، يتحول هذا التحري إلى رغبة في مراقبة الحدث مباشرةً. بالنسبة للبنانيين، يبدو أن مشاهدة ما يحدث أمام أعينهم تمنحهم شعورا بـ "التواجد"، وكأنهم يريدون فهم الخطر بشروطهم.

2. الاعتياد على المخاطر: عاش اللبنانيون لعقود في ظروف حافلة بالتحديات، بدءا من الحروب إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. يجعل هذا التعايش مع الخطر الشعور بالخوف أقل حدة. بمعنى آخر، ما قد يبدو مميتا لشخص خارج السياق اللبناني، قد يُعتبر "طبيعيا" في ظل الأزمات المستمرة. وهنا يمكن تفسير مرونة اللبناني النفسية في التأقلم مع أسوأ الظروف.

3. السعي للتحكم: الشعور بفقدان السيطرة على الحياة اليومية يدفع الناس الى البحث عن أي طريقة لاستعادة هذا الإحساس. من خلال مراقبة الحدث عن قرب، يشعر البعض أنهم يمتلكون جزءًا من الهيمنة على ما يجري، حتى لو كان ذلك مجرد وهم نفسي.

4. تأثير الجماعة: عندما يتجمع الناس في مكان ما، يتأثر الفرد بتصرفات المجموعة. رؤية الآخرين يقتربون من الحدث تدفع الشخص الى الشعور بأن التهديد أقل مما يبدو، خاصة إذا كان هناك شعور عام بالتضامن أو "مواجهة الخطر معا". فالتجمع يبدأ في التوسع شيئا فشيئا، وتنتشر هذه العدوى الاجتماعية بين الجميع. يشارك في هذا التجمع شباب وشابات ونساء وكبار في السن، مما يؤكد نظرية العدوى الاجتماعية في اختيار سلوك معين.

5. إيصال الخبر مباشرة: في عصر السوشيال ميديا، أصبح توثيق الحدث جزءا من حياة الناس. اذ يقترب البعض فقط للحصول على صورة أو فيديو يمكن مشاركته، وهو ما يعكس تأثير التكنولوجيا في السلوك الإنساني، حتى في أوقات الخطر، ليكونوا مصدرا للخبر.

هل يعبر هذا المسلك عن عزيمة ام استسلام؟ تجيب يونس، "بالنسبة لهذه الطريقة، يمكن تجسيدها في جانبين هما:

القوة:

مقاومة نفسية: الوقوف في وجه الخطر قد يكون علامة على قدرة نفسية قوية، خاصة في مجتمع تعوّد على التحديات ولم يسمح للخوف بأن يسيطر على حياته.

الشجاعة الجماعية: هذه التجمعات قد تكون انعكاسا لرغبة الناس في التضامن ومواجهة التهديدات معا، مما يوطد الإحساس بالوحدة والتكاتف.

الضعف:

قلة الوعي بالتداعيات: قد يعكس هذا السلوك تجاهلا للعواقب المحتملة أو ضعفًا في تقدير حجم الخطر الحقيقي.

تأثير القطيع: يشير اتباع الآخرين دون تفكير منطقي إلى نقص في الاستقلالية أو التقدير السليم للوضع، وهذا ما نشدد عليه اليوم لتفادي المخاطر التي قد تكون كارثية في حال تغير موقع الصاروخ أو تطاير الاجسام المؤذية.

التعامل مع هذه الظاهرة

وتشدد على "زيادة الوعي وتعزيز المعلومات التوعوية التي تركز على أهمية البقاء بعيدا عن أماكن الخطر. لكن هذه الرسائل يجب أن تُقدَّم بطريقة تعاطفية تفهم دوافع الناس، بدلا من انتقادهم. فليس من السهل على الإنسان أن يرى بيته يدمر أمام عينيه. يثير هذا المشهد العديد من المشاعر الصعبة، مثل العجز والتشوش، فيدفع البعض منهم الى التفاعل بتصرفات قد تبدو غير منطقية أو متهورة في ظل وجود الخطر. لذلك يساعد الارشاد النفسي والاجتماعي في تقليل هذا التوجه المتهور، من خلال نشر ثقافة الوعي بأهمية البقاء في أماكن آمنة حتى لو كانت الرغبة في مشاهدة الحدث قوية".

مراقبة شبكات الالكترونية

وتضيف "أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءا حيويا من حياة الناس اليومية، ومن دون شك، يؤثر ما يراه الفرد عبر الإنترنت فيه بشكل كبير. فبعض مقاطع الفيديو التي تظهر خلال الغارات أو الحروب قد تغري البعض بالمشاركة فيها والتفاعل معها. لذلك، من الضروري ان تتأكد الجهات المعنية من توجيه المحتوى الإعلامي بما يرسخ السلامة العامة، ويحث على الابتعاد عن التصرفات غير المدروسة التي قد تعرض حياة الناس للخطر".

التبعات

وتؤكد انه "من المهم أن نُدرك أن هذه التصرفات قد تكون جزءا من ردود فعل نفسية تتولد نتيجة الصدمات المتكررة. لذلك، يُنصح بتوفير الدعم النفسي للمجتمعات التي تعرضت للغارات والدمار، من خلال برامج متخصصة تقدم مساعدة نفسية تركز على معالجة هذا السلوك الاستفزازي والقلق المستمر الذي يشعر به المواطن اللبناني في هذه الاوضاع. إن تأمين بيئة آمنة نفسيِّا يساعد الأفراد على اتخاذ قرارات أفضل في التصدي للاختبارات الصعبة".

وتختتم، "لا يُمكن أن نعتبر هذا السلوك سوى مزيج معقد من الإيمان بالقضاء والقدر، والتحدي، والرغبة في السيطرة على واقع صعب. انه تصرف يتطور ويتكيف مع الوضع الراهن. ومع ذلك، تقع المسؤولية على عاتق الجميع، من أفراد ومؤسسات، في توجيه هذا العمل بما يضمن الأمان النفسي والجسدي للمجتمع، ويُحافظ على حياة الناس بعيدا عن أي خطر غير ضروري".

الأكثر قراءة

المقاومة تثبّت مُعادلة بيروت مقابل «تل أبيب» وتمطر «اسرائيل» بأكثر من 300 صاروخ العدو يتقصد استهداف الجيش اللبناني بوريل يحذّر: لبنان على شفير الانهيار