يذهب بعض الباحثين إلى أنّ الشخصية الإشكالية المعتمدة على الفرد الإشكالي، هي الأساس في الرواية الواقعية، وقد تكون في أساس الواقعية السحرية إن اتجه الكاتب نحو هذه الغاية، وإذا أردنا القول مع باختين إن البطل الإشكالي هو الذي يُعنى بوعيه وإدراكه لذاته، أو بكلمته الأخيرة حول العالم وحول نفسه، يأتي السؤال حول شخصية الأب الدكتور مانويان في رواية "الأب يغرق وحيدًا" للروائي السوري باسم سارة (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2024).
قبل الدخول في تفاصيل النص، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الرواية هي الأولى للكاتب، وهي على الرغم من توقّعات المتلقي من أنه سيواجه نصًّا فيه هنات ونواقص، إلا أنه يُفاجأ بنصّ ناضج يقترب من نصوص الكتّاب المحترفين.
تبدأ الرواية بحدث دفن الأم، رنيم نجار، في مقبرة "دونشيه" وهي إحدى المقابر في ألمانيا، ولقاء الإخوة الثلاثة وتفرّقهم بعد الدفن، وليم ووسام ويانا. توهمنا الرواية بأنّ الأحداث سترتبط بهم، أو بالأم بشكل كبير مع استرجاعات وذكريات، ولكنها تفاجئنا مباشرة، بالعودة إلى العنوان، العتبة التي نظنّ أنها كانت غريبة عن البداية، فالأم ماتت ولا حضور للأب، ولكنه يظهر مباشرة، وبشكل كبير.
يعود الزمن إلى زمن الهروب من سوريا، وكيف وصلت عائلة الدكتور مانويان إليه، وليم في الثانية عشرة، وأخوه وأخته في الرابعة والخامسة من عمريهما، ولكن وصولهم لم يكن يشبه حدث "لمّ الشمل" المتوقَّع، فالأب كان قد سلك دربه التي سيكمل بها حياته حتى نهاية الرواية. تلك الدرب التي فيها من الواقعية والخيال والهلوسات والضياع الكثير.
نسمع قصة والد الدكتور مانويان، الدكتور مانويان الأب، وقصته وزوجته التي تنسينا في لحظات كثيرة أننا ننتظر الاستمرار لنعرف أحوال العائلة في ألمانيا الآن، ولكنها تكون غايةً في نفسها لتعود بنا إلى أخبار سوريا، والتنوّع الذي كان مسيطرًا بألفة. ومع العودة إلى ألمانيا، نبدأ بحكايا الأب، الشخصية الإشكالية. ومعه تظهر حكايته مع الدكتور شنورهاور وزملاء العمل، وخصوصًا أمينة التي تستمر حتى نهاية النص، يعيدنا النص بعدها إلى اللاذقية، ومرحلة الشباب التي عاشها الدكتور مانويان، من ثمّ تدخل قصة وليم الابن، وعلاقته بمارسينا. وإنّ المرور سريعًا هنا على الأحداث، التي كانت كلها بلغة جذلة وجاذبة، فيها حرفية ودقة في إنشاء العلاقات، والأدوار التي أدتها هذه العلاقات، فقط للانتقال إلى ما هو أعمق.
الدور الذي أداه البطل الإشكالي، وما الجديد الذي قدّمه النص، هي أمور كانت جليّة وواضحة. فالنصّ لعب بالزمن بشكل كبير، كل ذلك ليجعل المتلقي متقبّلًا لكلّ ما سيفعله الدكتور مانويان، الذي تتأزم حاله النفسية بشكل كبير منذ منتصف الرواية، خصوصًا حين لقائه بالشيطان وعقد صفقة معه أن يميته بعد عشرين عامًا، وهو بالفعل ما يحصل، فالرواية عندما كانت تعيدنا إلى شبابه، كانت تقول إنّ ما سيحصل كانت له جذور، وعندما تقصّ علينا أخباره الآن، كانت تقول هذا ما أخبرتكم به، أما عندما بدأت الأمور تتحق في المستقبل، فهذا هو الجديد، لأنّ الرواية، في قسم كبير من أحداثها، كانت تدور في أعوام تصل إلى عشرين سنة أو أكثر من زمن القصّ، وزمن كتابتها، إلى أن تصل بنا إلى ذروتها، حيث يهرب الناس من الحرب الجارية في ألمانيا في ذلك المستقبل المتخيَّل.
حال الدكتور مانويان، الموسيقي والطبيب، والهائم وحده في وحدته وخيالاته، المبتعد طوعًا عن زوجته وأولاده، سافر مرة ورأى أمه في سوريا، في أحلامه أم في هلوساته لا يهمّ، ولكن صداقته مع الشيطان، مفستوفيلس، كانت من الجميل الذي قدّمه النص، لأنّ الدكتور مانويان، وما يمثّله من رمزيه حول شخصية الإنسان السوري، أو العربي إن صح التعبير، الهارب من بلاده، أي من واقعه، والموهوم بالاستقرار في غربته، والحائر في هويته، كانت حاجته إلى ما يثبت ذلك الضياع ضرورية لمفستوفيلس، فمن أفضل منه ليقوم بدور المخادع.
علاقات كثيرة كانت إشكالية في النص، ولعلّ أبرزها علاقة الدكتور مانويان بأمينة، وما رافقها من أحداث، وعلاقة وليم بمارسينا، وبالتالي علاقة مارسينا بابنها، وعلاقة مانويان بأمه... كثيرة كانت تلك العلاقات الشائكة، ولكنها كانت، وبسبب حرفية الكاتب، تؤدي إلى غاية واحدة، وهي ذلك الأب الذي سيغرق وحيدًا، وبالفعل يُطرد من عمله بعد تأزم حاله النفسية، ويموت وحيدًا. أما موت الأم، فكان رافدًا نعرفه فيما بعد، لتقول الرواية إنها ماتت بعده بوقت قصير، فكأن ارتباط قدريهما كان محتومًا، مهما حاولا التباعد أو التقارب، وهذا أدى رمزية تُعنى بارتباط أبناء البلاد الواحدة بعضهم ببعض، مهما تعددت الظروف والأحداث.
نهاية النصّ كانت للتأكيد على أن التاريخ سيعيد نفسه، فوليم، الذي سار على درب والده، خصوصًا في الموضوع الموسيقي، بالفعل يصل إلى حلب، في المستقبل المتخيّل، حيث ألمانيا في الحرب وليست الحرب في ألمانيا كما قالت الرواية، ولكن وصوله إلى تلك البلاد، التي يستعيدها في ذاكرته، كان فيه إيهام سرعان ما يتبدد، فقد أوهمنا النص بأن الحرب ستكون في أوروبا وستكون بلادنا بخير، ولو أن الرواية قالت ذلك لكان الأمر مبتذلًا وسيُنقص من قوتها وعمقها، ولكنّه كان عكس ذلك كليًّا.
مأخذ على الرواية لا بد من ذِكره، وهو فكرة الهروب من الحرب التي ستحصل في المستقبل، وكيف أن الزمن سيدور وسيُهجَّر أبناء تلك البلاد كما تهجّرنا، وأنّ الأحداث الراهنة تقول إننا واصلون إلى تلك النتيجة، فلو أن الرواية بقيت في إطار الحال الذي وصل إليه مانويان وربط ذلك بحال البلاد من دون توقّع ما سيحصل في ألمانيا، على الرغم من أنها كانت الفضاء الأساسي في النص، ولأن الرواية كانت رواية عربية، سورية، واستمرت، فإنّ تركيزها على هذا الأمر فقط كان أفضل.
هي واحدة من روايات الحرب، ولكنها أخذت أزمة الحرب بوصفها سببًا، لتصل إلى نتائج غير متوقَّعة، ولأن الكاتب يعيش بالفعل في ألمانيا، فإن لحاله النفسية غير المستقرة ظهور بارز في نصّه، ومن يعيش هذه الحال في الغربة سيعرف تمامًا ما قد يصيب المتعلّق في بلاده من أزمات، قد تجعله يلجأ إلى الشيطان، وإلى العزلة التامة، أو ربما إلى أمور غير متوقّعة كثيرة.
يتم قراءة الآن
-
«حبس أنفاس» جنوباً... وبن فرحان يُحدد الأولويات السعودية «اسرائيل» تناور وغموض من حزب الله حول «اليوم التالي»؟! سلام يواصل تفكيك «الألغام»... وزارة المال للشيعة
-
أنصاف بشر... أنصاف أميركيين
-
ترامب يوقّع قراراً لترحيل الطلاب الأجانب المتعاطفين مع حزب الله
-
العدو الإسرائيلي يصعّد عدوانه على لبنان: حكومة نتنياهو تعلن رفضها الانسحاب من الجنوب لبنان سيلجأ الى الدول الضامنة للاتفاق الدولي وفي طليعتها واشنطن الحكومة ضحية «التناتش» على الوزارات «الدسمة» والمقايضات ولا موعد للولادة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:51
المفوض العام للأونروا: منعنا من العمل قد يقوّض وقف إطلاق النار في غزة ما يخيب آمال الناس
-
23:50
سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة: على الأونروا مغادرة القدس بحلول الخميس
-
23:32
واشنطن بوست عن مسؤولين أميركيين: تبادل المعلومات بين واشنطن ودمشق لا يعكس تأييداً كاملاً لهيئة تحرير الشام
-
22:57
رويترز عن مصدرين في الكونغرس اطلعا على معلومات استخبارية: حماس جندت بين 10 إلى 15 ألف مقاتل منذ بدء الحرب
-
22:53
الأمن السوري يفرض حظر التجوال في جبلة بريف اللاذقية
-
22:18
زيلينسكي: بوتين يحاول التلاعب بجهود ترامب لتحقيق السلام