ينتظر القارئ في الغالب من كاتبه المفضّل، والذي يتابع نتائجه ويعتبر أنه من الأفضل في سرديته ومشروعه وقضاياه التي يطرحها، ويأمل في كل مرة أن تأتي النصوص التي ينشرها هذا الكاتب أكبر وأعمق وأكثر تعقيدًا من التي سبقتها، ويظنّ أنّ تصاعدية مستوى هذا الكاتب قد تكون في التجريب الدائم أو في التعقيد الدائم أو في الخوض في معتركات التحدي لكل ما هو سائد، ولكن قد يخفى على المتلقي، بأنّ هذا المبدع، هذا المثقف، قد يحتاج إلى أن ينتج في بعض الأحيان نصوصًا خفيفة أقل عمقًا من غيرها وأقل طولًا، وقد يظنّ أيضًا أنّ هذا ما فعلته بثينة العيسى في روايته القصيرة/نوفيلا "دار خولة" (منشورات تكوين 2024)!
ما أظنه خفي على المتلقي أنّ التجريب ليس بالضرورة أن يكون في اللعبة السردية أو الزمانية أو المكانية، أو في اللجوء إلى التاريخ أو استباق أحداث المستقبل، كلها مطلوبة وقد طُرِقت أبوابها في الأدب العربي الحديث، وما خفي عليه أيضًا، أنّ النوع أحيانًا، القالب الكتابي، وهنا أعني الرواية القصيرة/النوفيلا، يكون هو التجريب بعينه، وعندما يقرر كاتب كبير أن يخوض التجربة في رواية اجتماعية تبقى من ضمن مسار مشروعه الكبير، فهذا يُحسَب لهذا الكاتب أو ذاك. ما أقوله إنّ العيسى لم يكن صعبًا عليها أن تضيف، وتستغل براعته وحرفيتها لتقدم رواية عادية من حيث الشكل، ولكنها أرادت لـ"دار خولة" الفرادة.
هي قصة خولة، أستاذة الفولكلور وأرملة أستاذ الأدب العربي، هذان الكويتيَّان اللذان كان اجتماعهما وزواجهما بديهيًّا لمن عرفهما، أنجبا "ناصر ويوسف وحمد"، الذي مات والدهم وحمد في الثانية من عمره، وناصر في أقسى درجات أزماته النفسية مع أمه.
نعرف من قصة الوالدة أنها قبل سبع سنوات أجرت مقابلة استغلها رواد السوشيل ميديا لتصبح "تارند" و"ستيكرز" لكل من يريد السخرية والتهجم، وأصبحت مصدر عار لأبنائها، تلك المقابلة التي زادت من حدة تباعدها مع أبنائها، وخصوصًا ناصر. قصتها مع ناصر، ابنها البكر، الذي أدخلته المدرسة الأميركية، وباعترافها ذلك القرار كان ننتيجة غرقها في حبّ الرجل الأبيض الأميركي وكل ما جاء به إلى بلادها، وخصوصًا بعد حماية بلادها وطرد العراقيين، ذلك الغرق الذي أضحى انفصالًا وهجومًا وحربًا في داخلها، أشعلتها تجاهه بعدما عرفت خطأها وعرفت أنّ الأمركة كانت همّهم الأول، وهو ما حققوه وانتصروا فيه. ولكن ردود أفعالها كانت السبب في خسارة ابنها، وفي النهاية نعرف أنها خسرت بذلك أبناءها.
تحصل الأحداث ما بين استرجاعات بسيطة واستباقات أبسط منها خلال العشاء الذي دعت الأم أبناءها إليه، في دارها "دار خولة" الذي ما فتئ الأب قبل وفاته ومع ازدياد جنون زوجته، باعتقاده، يستبدل عبلة ولبنى وليلى بخولة ليصبح الشعر العربي كله موجّهًا إليها، هي التي أخذت على عاتقها بعد صدمتها بالـ"أمركة" الدفاع عن كل ما هو عربي وشرقيّ وأصيل، والهجوم على كل ما يمتّ للثقافة الغربية بصلة، وهنا نسيت ابنها ناصر الذي كان في منتصف دربه الغربي والعودة منه ليبدأ من جديد، مستحيلة.
في البيت الواحد ما بين المطبخ الذي سعت طيلة حياتها ليشبه حميمية مطبخ الأفلام التي تجمع الأميركيين والأوروبيين على موائد الميلاد وغيرها، جمعت فيه ابنيها، والثالث جاء بعد انتهاء المعركة الأخيرة، ولكن ما كان ناقصًا هو الحميمية، وهو الحبّ والتقبّل. وأريد التركيز على "التقبّل" لأنّ النصّ بُنِيَ على نقيضه، وهنا الجِدّة، حيث تبني حركة سرديّة وعلاقات بين شخصيات خمسة، خولة والزوج والأبناء الثلاثة، بشكل معقّد وسرعة في الحوارات والأحداث، وتبقي على قضيتك حاضرة بقوة في كل حركة وكلّ إبراز لعلاقة.
خولة لم تقبل الواقع الجديد للبلاد، تماهت فيه حتى صدمها فكرهته وحاربته. زوجها الذي لم يقف ضدها في أسلوب تربيتها الغربي في البداية، لم يقبلها عند ردّ فعلها القويّ فأصبحت السخرية أساسًا في تعاطيه مع مشكلتها. ناصر الذي شبّ مختلفًا واستمرّ، وتصرّح الرواية بأنه "مخنّث" في آخرها على لسان أخيه، لم تتقبل الأم فكرة اختلافه وإصراره على البقاء في مدرسته، ولم تحسب حسابًا له بعدما وضعته هي في تلك المدرسة، فكان حقل تجارب أفكارها المتقلبة، وعندما أعلن اختلافه، لم تقبله. يوسف الذي كان صوت "السائد" بوصفه البارّ الدائم لأمه وطالب رضاها المستمر، اختلافه كان بواقعيته المفرطة وتبعيته للسائد وعدم قبول المختلف، ولعل انفجاره في وجه أخيه وأمه، كان الدليل الأبرز على أنه كان يعيش في وهم التقبّل، فقد كان منافقًا، مثل معظم الناس في بلادنا الذين يدّعون قبول الآخر. أما حمد، والذي ظهر في المشهد الأخير، فهو أوضح مثال على عدم التقبّل، حيث قرر الهروب من العشاء "الأخير" وعاد بعد انتهائه، خصّ أمه بسمكة لحوضها الفارغ، ولكنها، السمكة، أو الأم، خولة، تعلن موتها في النهاية.
دار خولة وحوضها الفارغ، وسمك الحوض الذي أكل بعضه بعضًا، ليست البلاد فحسب، بل دواخلنا التي، ولقلة وعينا بهذه الدواخل، نحشوها بكل ما هو متنافر من دون التنسيق بينها من خلال الوعي بها، فيحصل الانفجار في النهاية، إن من خلال عدم قبول الآخر، وإن من خلال الخلل الذي نبني عليه أفكارنا وثقافتنا ومبادئنا، فنصبح غير واعين لأنفسنا، حيث، قد، يصل بنا الأمر لأن نفقدها ونفقد البلاد، والحب، والعائلة... معها.
هي رواية قصيرة ذات الإيقاع السريع، أرادتها الكاتبة تجربة فريدة تضمها إلى مشروعها الأدبي وهمها الثقافي الذي أعلنت عنه منذ زمن بعيد وما زالت مستمرة فيه ولم تحِد، الجديد فيها هو النجاح في أن تكتب نوفيلا متقنة، من ضمن المشروع الكبير، وحول البلاد التي هي همها الأول، وحول أبناء البلاد الذين كانت همومهم مسيطرة على صفحات النص القليلة، تلك الهموم التي تنوعت، وجمعتها حرفية الكاتبة ولغتها السلسة، وجمعتها أيضًا أسئلة كبرى، حيث التأكيد على أنّ المشروع بالبحث عن الإجابات مستمرّ أيضًا.
يتم قراءة الآن
-
مصير الرئاسة والهدنة يحسمه هوكشتاين حزب الله: مُنفتحون على قائد الجيش... ولا «فيتو» سوى على سمير جعجع
-
هذه الكلفة المتوقّعة للحرب في حال تجدّدها
-
الموفد السعودي حيّر الجميع: مُواصفات لا اسم... والخيار لكم... وننسّق مع قطر!
-
إنتخاب الرئيس الخميس؟ "البصمة" لبري و "النكهة" أميركيّة هل يتمكّن جعجع من تطيير النصاب... والاعلان "الأمر لي"؟
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
18:53
الجيش اللبناني يعثر على جثامين شهداء في الناقورة وعلما الشعب والجيش الإسرائيلي ينفّذ تفجيرًا في حولا
-
18:06
وزير الإعلام زياد المكاري يتلو مقررات الجلسة الوزارية: مجلس الوزراء إتخذ في جلسته قرارًًا بترحيل الناشط المِصريّ المعتقل في لبنان عبد الرحمن القرضاوي إلى الإمارات
-
18:06
الحكومة اللبنانية تتخذ قراراً بترحيل عبد الرحمن القرضاوي إلى الإمارات بناءً على توصية قضائية رفعها المدعي العام التمييزي جمال الحجار في طلب الاسترداد الاماراتي
-
18:05
وزير الإعلام زياد المكاري يتلو مقررات الجلسة الوزارية: جرى اتصال بين الرئيس ميقاتي والشرع واتفقا على دوام التواصل بما فيه مصلحة لبنان وسوريا والمنطقة
-
16:40
ميقاتي كلّف نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي التواصل مع مختلف الأفرقاء للعودة بمشروعين متكاملين حول موضوع معالجة أوضاع المصارف وتعديل قانون النقد والتسليف
-
16:36
وزير المهجرين عقب انسحابه من الجلسة الوزارية: ميقاتي ممتعض من المودعين لإقدامهم على وقفة تضامنية ولا أرضى أبداً أن يضع ملف المودعين على الرف ومشروع معالجة المصارف لن يكون على حسابهم