من بين جميع الأسماء، آلاف الأسماء، التي كان يمكن لأزهر جرجيس أن يختارها لبطله في رواية "النوم في حقل الكرز" (دار الرافدين 2019)، اختار له "سعيد ينسين"، والمتلقي، إن كان مأخوذًا مثلي ومختصًّا في أدب غسان كنفاني، واشتغل على "عائد إلى حيفا" في الماجستير والدكتوراه، سوف يلوم الكاتب في بداية القراءة، ولن يقبل أن يبحث عن التناصّ، ولكن المتلقّي نفسه، إن كان ممن يبحث عن النهايات الصادمة والحاثّة على التفكير وإثارة الشعور، مثلي أيضًا، سوف يبكي في نهاية الرواية، ويقول إنّ غسان كنفاني، وسعيد س.، يحتاجان أن يعيدهما كاتب أو باحث أو قارئ إلى الأذهان، لأن عبقرية كنفاني، لا بدّ وأن تستمر وأن تبقى متصلة مع عبقريات آخرين ممن يكتبون الأدب العربي.
سعيد ينسين، العراقي الهارب من بلاده، من طغاتها، القدماء والجدد، والذي وصلت روايته عن طريق خطأ بالعنوان، إلى بطل الرواية الوهمي والتي يوهمنا بترجمتها فقط، يذكرنا عن قصد أو عن غير قصد، عن تناصّ أو عن مصادفة بحتة، بسعيد س. (سين) الذي لم يخرج من بيته عن طريق الخطأ، ولكن يفقد ابنه عن طريق الخطأ، وهنا الكثير للحديث عنه لو أنني أريد للتناصّ أن يسيطر على مقالي. ولكنني أفضّل الحديث عن "النوم في حقل الكرز" منفردة.
قرأتُ لأزهر جرجيس "حجر السعادة" وكانت من أفضل ما قرأت في ذلك العام، ومنذ أشهر قرأت "وادي الفراشات"، وقد أثبتت حضورها، ولكن هذه الرواية، ولأنها رواية الكاتب الأولى، بعد مجموعات قصصية، وجدتُ فيها ما أسس له جرجيس، وعدتُ إلى الروايتين السابقتين، فوجدتُ أنه كان يمشي خطوة بخطوة، ويخطط لكل خطوة، فالأسلوب واضح واللغة واضحة، والعمق والألعاب الروائية واضحة، إلى الوضوح الأهم، وهو ما يعطي المثقف والمبدع موقعيته الخاصة وموقعية أعماله الخاصة والفريدة، القضايا التي تطرحها، وجرجيس منغمس في قضايا البلاد، قضايا العراق.
تصل رواية "سعيد ينسين" إلى يد البطل الوهمي ولا يحضر أبدًا في النص، ونقرأ تقريرًا في نهاية الرواية حول "مصير" سعيد ينسين، سعيد الذي جعل من بطل روايته يعيش في النرويج، يصلها بعد معاناة تطلعنا عليها الرواية خلال السرد والاسترجاعات، ولكنه قرر العودة إلى العراق بعد رسالة من عبير، ليجد رفات والده في مقبرة جماعية، يعود ويموت بانفجار هناك، وبعده بساعات قليلة يموت سعيد ينسين نفسه في شقته. إيهام بموت بطل الرواية نفسه كان سيجلعنا نلوم الكاتب إذ كيف يكتب قصته من مات في الانفجار فعلًا، ولكن جرجيس لا يعطيك الفرصة لتلومه، فتكون النهاية من أعمق ما يكون وأقوى ما يكون من تأثير بالمتلقي.
أخبار اللجوء حضرت وإن بشكل غير أساسي، وحياة اللاجئ حضرت ومعاناته، ولكن الكاتب الذي يحمل هموم البلاد على ظهره وفي قلبه وفي عقله، لا يمكنه إلا أن يسمح لها للسيطرة على كل ما يبدع، وجرجيس لم يخفِ، وهو بعدُ في البلاد، وهو خارجها، أنها تتملك أفكاره ومشاعره.
يتنقل بطل الرواية بالأزمنة، ولعل الانتقال الأكثر "شغبًا" من قبل جرجيس هو ذلك التنبّؤ الذي يصل بالرواية إلى العام 2023، حيث ينقلنا من الـ2005، حيث تجري الأحداث في العراق بعد عودة بطلها وما يتعرض له، ومن ثم وفاته، عام 2023، الذي لم يكن قد وصله الكاتب نفسه وهو الذي نشر نصه عام 2019، أي كتبه ما بين 2017 و2018، وهو يعرف أن العراق الذي ظهر في الرواية عام 2023، هو عراق وهمي، وبغداد الحلم يعرف أنها لن تتغير خلال خمس سنوات، ولكنه أبقى على مفهوم الحلم مسيطرًا، وجعلها تصبح مدينة الأحلام، على الرغم من معرفته ويقينه أنه "وهم"، وهنا تفاؤل أراه يحقّ للمبدع، فخياله الخصب مباحٌ له ما يشاء.
أما عن مصير البلاد، وما حصل بعد سقوط الطاغية، وكيف تحولت إلى بلاد للطغاة الجدد، وكيف أنها ما زالت وستبقى، فهو الأمر الأساسيّ الذي أرادت الرواية أن تقوله، وإنّ البحث عن الموت الكريم في البلاد الغريبة أصبح همًّا لدى من هم مثل سعيد ينسين، لا الحياة الكريمة، لهي قضية حملها النصّ وأوصلها بكل فيض الشعور والفكر، ووصلت بالفعل إلى المتلقي.
لقد أنهى كنفاني روايته بأن تمنّى، سعيد س. أن يكون ابنه خالد قد التحق بالمقاومة، أما جرجيس، فكان واقعيًّا بشكل مؤلم، فقد أنهى نصه بـ "المجد لمن نام في حقل الكرز"، ومنح بطله، سعيد ينسين دفنًا لائقًا، مع برواز صورة والده الذي بقي فارغًا، بعد حياة كاملة، غير لائقة.
حضرت السخرية فهو أسلوب أزهر، وحضرت اللغة المحبوكة والمدروسة، وحضرت القضايا وحضر السرد والوصف والعلاقات والشخصيات بكل قوة وعناية، ولكن العنصر الأبرز في هذا النص كان التجربة الشعورية للكاتب نفسه، فلا يمكن أن يفصل المتلقي بين حياة الأبطال وحياة الكاتب، وهو لم يخفِ حتى البلاد التي لجأ إليها، وما زال يعيش فيها، تلك التجربة الشعورية التي نقلها جرجيس إلى نصه، فاجتاحت مشاعر المتلقي وأفكاره.
يتم قراءة الآن
-
لبنان تحت المجهر الدولي... قرارات حاسمة في الأفق حرب الساحل السوري تنعكس توترا في طرابلس ــ عكار ــ الهرمل ــ القصير
-
الترويكا الأميركيّة لإدارة لبنان
-
الضغوط تخلي معلولا من المسيحيين...أين المجتمع الدولي من الهجرة المسيحيّة من سورية؟ مخاوف من اتباع سياسة ممنهجة لإفراغ المناطق الدينيّة وقلب المعادلة الديموغرافيّة...!!
-
مقتضيات «الوحدة الوطنية» تنتج التعيينات الامنية والعسكرية اجماع على رفض التطبيع... ونتانياهو: لن ننسحب من لبنان «القوات» تستعجل طرح ملف السلاح... والرئيس مع التريث!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
21:48
زحمة سيارت خانقة والسير متوقف على طريق بشارة الخوري باتجاه وسط بيروت
-
21:24
غارة إسرائيلية جديدة استهدفت جرود بلدة ماسا الحدودية مع سوريا في السلسلة الشرقية
-
21:22
العدو يلقي بالونات حرارية الان في البقاع بشكل مكثف.
-
21:02
تجدد الغارات الاسرائيلية على السلسلة الشرقية
-
20:22
تحليق مكثف للطيران الحربي والمسيّر في الأجواء البقاعية
-
20:19
الغارة الإسرائيلية الثانية في السلسلة الشرقية استهدفت مرتفعات جرود قوسايا
