اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


يُعدّ قطاع التعليم في لبنان ركيزة أساسية للتنمية، لكنه يعاني من أزمات متفاقمة زادت حدّتها بفعل النزاعات والأزمات في السنوات السّابقة، ولا سيمّا العدوان الإسرائيلي الأخير، ما يستدعي خطة تعافٍ شاملة. قبل العدوان، كان التعليم في لبنان يواجه تحديات بنيوية وهيكلية متعددة تؤثر في جودته ومخرجاته، حيث كشفت نتائج اختبارات (PISA) لعام 2018 أن أكثر من 66% من الطلاب اللبنانيين لم يحققوا الحد الأدنى في القراءة، كما أظهرت نتائج دراسة (TIMSS) تراجعًا في أداء الطلاب في العلوم بين 2007 و2019، ما يعكس ضعف النظام التعليمي وعدم تمكن الطلاب من اكتساب المهارات الأساسية اللازمة للتطور الأكاديمي والمهني. كما أدّى قصور تأهيل المعلمين إلى ضعف أدائهم الأكاديمي، بينما تُعد المناهج الدراسية الحالية، الموضوعة منذ 1997، عائقًا أمام مواكبة التطورات التربوية والتكنولوجية. يضاف إلى ذلك ضعف الإدارة التعليمية وغياب التخطيط الفعّال والرقابة والتقييم المستمر، مما يُبقي المشكلات قائمة ويعمّق الفجوة التعليمية بين لبنان والدول الأخرى، ما يهدد فرص التنمية المستقبلية.

بين عامي 2019 و2023، تعرض قطاع التعليم في لبنان لخسائر جسيمة انعكست مباشرة على التحصيل الدراسي للطلاب. فقد اقتصر التعليم الحضوري على 270 يومًا فقط من أصل 600 يوم متوقع، ما يعني فقدان 55% من الأيام الدراسية المفترضة. أدى هذا الانقطاع المطوّل إلى تراجع ملحوظ في المستوى الأكاديمي، خاصة في المهارات الأساسية كالقراءة والرياضيات والعلوم، مما عمّق الفجوة بين طلاب المدارس الرسمية والخاصة، حيث حظي طلاب القطاع الخاص بتعليم أكثر انتظامًا، ما عزّز التفاوت في فرص التعلم وجودته. كما أسهمت هذه الأزمة في ارتفاع معدلات التسرب المدرسي، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي دفعت العديد من الطلاب إلى الخروج من المنظومة التعليمية نهائيًا. وإلى جانب التأثير الأكاديمي، كان للانقطاع المدرسي تداعيات خطرة على الصحة النفسية والاجتماعية للطلاب، نتيجة ضعف التفاعل الاجتماعي وغياب الدعم النفسي، حيث شكّلت الفجوات التعليمية تحديًا جوهريًا لجاهزية الطلاب لمتابعة التعليم العالي أو الاندماج في سوق العمل، مما يهدد فرصهم المستقبلية ويحد من إمكاناتهم الإنتاجية. كما أن هذا التراجع لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد ليؤثر في التنمية البشرية في لبنان، مما يستوجب معالجة سريعة ومنهجية لضمان استدامة العملية التعليمية وتحقيق العدالة في فرص التعلم.، علمًا أنّ لبنان يضم 3,334 مؤسسة تعليمية (43 % رسمية، 57 % خاصة)، تخدم نحو 1.2 مليون طالب، حيث يلتحق 38% منهم بالمدارس الرسمية. يشمل القطاع التعليمي في لبنان المدارس الرسمية والخاصة، الجامعة اللبنانية، الجامعات والكليات الخّاصة، المؤسسات التعليمية التابعة للأونروا، المآوي (shelters)، إضافة إلى مراكز التعليم والتدريب المهني والتقني.

وفقًا لنتائج التقييم السريع للأضرار والاحتياجات الناتجة من العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال الفترة ما بين 2023 و2024، والذي أعده البنك الدولي بناءً على طلب الحكومة اللبنانية بالتعاون مع المجلس الوطني للبحوث العلمية في لبنان (CNRS-L)، بلغ إجمالي الأضرار المادية في البنية التحتية للقطاع التعليمي حوالى 151 مليون دولار. تدمّر 59 مرفقًا تعليميًا بالكامل، بينما تضرر 299 مرفقًا جزئيًا. كانت المدارس الخاصة الأكثر تضررًا، حيث دُمِّرت 34 مدرسة بالكامل و173 جزئيًا بتكلفة تقديرية بلغت 96 مليون دولار. أما المدارس الرسمية، فتضررت 120 مدرسة جزئيًا و25 مدرسة بالكامل بتكلفة 51 مليون دولار. كما تضررت 6 منشآت تعليمية من الجامعات ومراكز التعليم المهني بتكلفة 3.8 مليون دولار. بالإضافة إلى الأضرار المادية، تكبد القطاع خسائر اقتصادية غير مباشرة تُقدّر بحوالى 414 مليون دولار، شملت فقدان الإيرادات الناتجة من إغلاق المدارس الخاصة (378 مليون دولار)، وتكاليف تشغيل المدارس المحورية البديلة (مثل اعتمادها مراكز تعليم، أو مراكز تقديم الخدمات للنازحين وإيوائهم)، بتكلفة 36 مليون دولار.

أما على مستوى التوزيع الجغرافي، فتباينت الأضرار والخسائر الناتجة من العدوان الإسرائيلي الأخير بين المحافظات اللبنانية. تصدرت محافظة النبطية قائمة المناطق الأكثر تضررًا بإجمالي أضرار بلغ 81 مليون دولار، تلتها محافظة الجنوب بـ39 مليون دولار، ثم جبل لبنان بـ21 مليون دولار. على صعيد الخسائر الاقتصادية، كانت محافظة جبل لبنان الأكثر تضررًا بخسائر بلغت 116 مليون دولار، تلتها محافظة الجنوب بـ 64 مليون دولار، ثم البقاع بـ55 مليون دولار. أسهم العدوان في زيادة التفاوتات التعليمية، حيث استعادت المدارس الخاصة نشاطها أسرع من المدارس الرسمية التي تواجه تأخيرات وعوائق، ما يعمق الفجوة التعليمية ويزيد من تفاقم الوضع بالنسبة للتلاميذ الذين يعانون أصلاً من ضعف تعليمي وصعوبات تعلمية، واحتمالية زيادة التسرب المدرسي، خاصة في المدارس الرسمية. كما ستؤثر هذه الاضطرابات في التنمية البشرية والاقتصاد على المدى الطويل، مما قد يؤدي إلى انخفاض كفاءة الموارد البشرية والإنتاجية الوطنية، وزيادة هجرة الكفاءات الشابة، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ويعوق تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.

وفقًا للتقرير، تُقدر احتياجات التعافي وإعادة الإعمار في قطاع التعليم اللبناني بحوالى 554 مليون دولار أميركي، موزعة على ثلاث فترات زمنية: 312 مليون دولار في الفترة الفورية (2025)، 170 مليون دولار في المدى القصير (2026-2027)، و72 مليون دولار في المدى المتوسط (2028-2030).

تتمحور هذه الاحتياجات حول محورين رئيسيين. الأول يتعلق بإعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية بتكلفة تقديرية 226 مليون دولار، يشمل ذلك إعادة بناء المدارس المدمرة كليًا بتكلفة 74 مليون دولار، حيث تم تخصيص 37 مليون دولار في الفترة الفورية، 22 مليون دولار في المدى القصير، و15 مليون دولار في المدى المتوسط. كما يحتاج ترميم المدارس المتضررة جزئيًا إلى 153 مليون دولار، موزعة على 76 مليون دولار في الفترة الفورية، 46 مليون دولار في المدى القصير، و31 مليون دولار في المدى المتوسط.

ويتناول المحور الثاني من الخطة استعادة تقديم الخدمات التعليمية مجموعة من البرامج التي تهدف لتعويض الفاقد التعليمي وتحسين البيئة التعليمية. تشمل هذه البرامج تعويض الفاقد التعليمي في المدارس الرسمية بتكلفة 118 مليون دولار، موزعة بين الفترة الفورية (78 مليون دولار) والمدى القصير (39 مليون دولار). كما تشمل مراجعة وتحديث المواد التعليمية بتكلفة 53 مليون دولار، منها 48.2 مليون دولار مخصصة للتلاميذ و4.8 مليون دولار مخصصة للمعلمين وموزعة على 44 مليون دولار في الفترة الفورية، و8.8 مليون دولار في المدى القصير، وذلك لتحديث المناهج وطرق التعليم بما يتناسب مع احتياجات المعلمين والطلاب. بالإضافة إلى ذلك، سيتم تخصيص 152 مليون دولار لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، موزعة على طلاب في المدارس الرسمية (70 مليون دولار)، وطلاب المدارس الخاصة (75 مليون دولار)، والمعلمين (7 مليون دولار)، خصص منها 74 مليون دولار في الفترة الفورية، 52 مليون دولار في المدى القصير، و26 مليون دولار في المدى المتوسط. كما تتضمن الخطة أيضًا تدريب المعلمين في التعليم الرسمي بتكلفة 5 مليون دولار، موزعة على الفترة الفورية (2مليون دولار)، المدى القصير (2 مليون دولار)، والمدى المتوسط (1 مليون دولار).

إن حجم الأضرار التي تعرض لها قطاع التعليم اللبناني يتطلب استجابة عاجلة ومنسقة من الحكومة اللبنانية والشركاء الدوليين والمنظمات الدولية لإعادة الإعمار والتعافي السريع. يشمل ذلك توفير التمويل اللازم لإعادة تأهيل المدارس والبنية التحتية التعليمية. رغم وجود خطط واضحة، يبقى التساؤل حول قدرة الدولة على تأمين هذه الموارد الضخمة في ظل الأزمة المالية العميقة، ومدى قدرة هذه الخطط على تحقيق العدالة في توزيع الموارد بين القطاعين الرسمي والخاص والمناطق المتضررة، وفي ضمان الشفافية والمساءلة في الإجراءات المتعلقة بالقرارات والتمويل، بالإضافة إلى معالجة الفجوات التعليمية وتطوير مهارات المعلمين وتعزيز الحوكمة في قطاع التعليم.

إن إنقاذ التعليم في لبنان هو رهان على مستقبل البلاد واستقرارها، ويعد استثمارًا استراتيجيًا في رأس المال البشري لتحقيق التنمية المستدامة، إذ يتطلب ذلك دمج الإصلاحات المادية والتعليمية مع التركيز على الحوكمة الرشيدة، بحيث يكون التعليم أولوية وطنية تضمن مستقبلًا أكثر إشراقًا للبنان. وعليه نتساءل، هل ستتمكن الحكومة الحالية من الوفاء بالالتزامات التي تعهدت بها في مجال إعادة الإعمار والتعافي التعليمي، في ظل التحديات المالية والسياسية الكبيرة التي تواجهها؟ 

الأكثر قراءة

انجاز التعيينات الامنية الخميس... «تسوية» شقير وعبدالله أنقذتها؟ بري للخماسية: «وطني معاقب» واوتاغوس: مفاوضات الحدود قريبا الحجار يكسر الجمود... والبيطار على مشارف قرارات حاسمة!