لم يكن التشرد يوما حكراً على المجتمعات الفقيرة أو النامية، فالتشرد ظاهرة منتشرة في كل دول العالم، حيث نجدها في أحياء باريس الممتزجة بالحضارة والحداثة، وفي أزقة مدينة الضباب لندن، وشوارع واشنطن الشهيرة.
وفي لبنان وبكل مناطقه دون استئناء نلتقي يوميا بعشرات بل مئات المشردين، نراهم ينتشرون هنا أو هناك على جوانب الطرقات وتحت الجسور، بعضهم يتسكع نهارا بحثا عن فتات خبز او بقايا طعام يرميها له العابرون، وينام ليلاً على الارض مفترشاً الرصيف غطاؤه السماء، والجسر سقفاً يأويه من حرارة الشمس وغزارة الأمطار، بعدما افترش الأرض للجلوس والنوم، وقد رسم كل واحد منهم حدود تموضعه بشكل صارم، حيث لا يتجرأ أحد منهم على الاقتراب من المساحة التي استولى عليها غيره.
كم مرّ أن يجد المواطن نفسه مشرداً على أرصفة وطنه، فكل واحد منهم يحمل حكاية كانت جسر العبور من ضفة إلى أخرى، قصص عديدة تسمعها، فتلك التي هربت من منزل زوجها أو والدها أو زوجة ابيها، والتجأت الى الشارع خوفاً من التعنيف، وذلك الصبي المتسول اتخذ من زاوية تحت الجسر مكاناً له، بعد أن ترك منزل زوج أمه، ومنهم من يرفض أن يكون عبئاً على أولاده، والبعض من تخلى عنهم اقرب الناس لهم ورموا بهم إلى الطرقات.
واقع مؤلم تشهده البلاد، فبعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد عام ٢٠١٩، وتفجير مرفأ بيروت والحرب "الاسرائيلية" المدمرة بشكل ممنهج على لبنان، تزايدت أعداد المشردين في البلاد، واعتبر نائب المدير الاقليمي لمنظمة العمل الدولية فرانك هاغمان، ان هذه الآفة تفاقمت مع النزوح السوري الى لبنان، فيما اشارت آنا ماريا لوران من اليونيسيف "ان هذه المشكلة تعود الى هشاشة الاوضاع الأسرية وتدفق النازحين السوريين الى لبنان".
وتختلف التقديرات بشأن أعداد النازحين السوريين في لبنان؛ إذ تشير الإحصائيات الرسمية إلى نحو 1.5 مليون نازح، في حين تفيد بعض مصادر الأمن العام اللبناني بأن العدد يتجاوز المليوني نازح، ما يشكل حوالى ربع سكان لبنان حاليا.
قد يصبح الشخص مشرداً لا مسكن له لعدة أسباب، بحسب الدكتورة في علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية ليلى شمس الدين، وهي "الفقر، البطالة، التفكك الأسري، نقص الخدمات، النزوح الناجم عن النزاعات، الكوارث (انفجار مرفأ بيروت عام 2020 مثالاً)، العنف المنزلي وأيضاً الإدمان"، مضيفة "هذه العوامل مجتمعة تتضافر مع عدم توفّر الحماية من خلال الأنظمة الاجتماعية، التي يجب أن تقدّمها الدولة وأهمها الرعاية الصحية، الدعم الاجتماعي، والحد من معدلات البطالة ووضع سياسات للمعطلين عن العمل. وتالياً، في ظل غياب سياسات عامة يمكن الاعتماد عليها، يترك الأفراد في موقع ضعيف ويصبحون عرضة للمعاناة، وبصورة مضاعفة في ظل الأزمات حين تصبح احتمالات التشرد مضاعفة، لكل ما سبق من أسباب".
يشار إلى أن تفجير مرفأ بيروت في ٤ آب ٢٠٢٠ أدى إلى مقتل ٢١٧ شخصا وإصابة ٧٠٠٠ آخرين وتشريد ٣٠٠ ألف، كما خلّف ما لا يقل عن ١١٢٠ مبنى بحاجة إلى ترميم في الأحياء الأقرب لمكان التفجير. حتى اليوم، تشير التقديرات إلى أن ٣٠٪ فقط من سكان هذه الأحياء قد عادوا بالفعل إلى منازلهم بحسب تقرير "مرصد السكن"، وهو أداة طورها استديو أشغال عامة بغرض حماية وتحسين حقوق السكن في لبنان.
وأكدت شمس الدين أن "التشرد يتخطى غياب السكن اللائق، ويعني أيضاً فقدان الهوية والرفاهية العاطفية والأمان الجسدي الداخلي والخارجي، وهذه مشكلة اجتماعية كبيرة"، مضيفة " إذا أردنا تعريفه بمعناه الأشمل، فهو لا ينحصر بالأشخاص الذين خسروا منازلهم فقط، بل بكل شخص مهدّد بأن يخسر مكان سكنه لأسباب خاصة أو عامة، أو كل شخص لا يملك القدرة المادية للحفاظ على مسكنه".
مصدر في وزارة الشؤون الاجتماعية أكد "عدم توافر أعداد دقيقة عن المشردين في الوقت الحالي، على اعتبار ان هؤلاء في حالة تنقل دائم"، موضحاً أن "آخر إحصاء كان في العام ٢٠١٦ ، وبعد ذلك لم يتمكنوا من القيام بإحصاء جديد، ولكن يمكن الاستنتاج إن كان العدد في ارتفاع أو انخفاض، نسبة الى ملاحظة الظاهرة، فعندما تكون الحالة غير طبيعية هذا يدل على ازدياد في الأعداد، وطبعاً الظاهرة أي ما هو واضح للعيان، يعتمد عليها علماء الاجتماع".
وحدد المركز الأوسترالي للإحصاء التشرد في ثلاثة أنواع :
- التشرد الأساسي الذي يشير إلى أولئك الأشخاص الذين يضطرون للمبيت في الشوارع والحدائق والمرافق العامة أو حتى السيارات بشكل مؤقت، نتيجة لعدم امتلاكهم لمأوى كبقية الأفراد.
- التشرد الثانوي في إشارة إلى الأشخاص المتنقلين من مأوىً إلى آخر، كاللاجئين والمقيمين في ملاجئ الطوارئ، أو المتنقلين بين منازل العائلة والأصدقاء، والمقيمين في أماكن بشكل المؤقت.
- التشرد من الفئة الثالثة الذي يشار إلى الأفراد القاطنين في منازل لا تحتوي على المتطلبات الأساسية للحياة مثل: الحمامات والمطابخ، بالإضافة إلى الذين لا يملكون عقد إيجار طويل الأمد.
ظاهرة التشرد رافقت تاريخ البشرية، وهي موجودة في كافة المجتمعات ولدى كل الفئات والطبقات الاجتماعية، وتعتبر آفة مجتمعية تستدعي العلاج. ولمكافحة التشرد بشكل فعال، يجب على الدولة انتهاج سياسات واستراتيجيات فعالة للقضاء على ظاهرة التشرد، مع الحرص المتواصل والتأكيد على الجهات ذات العلاقة بهذا الشأن داخل البلد على تطبيق تلك الاستراتيجيات ضمن أُطر زمنية محددة، و تشريع القوانين التي تضمن حماية المشردين من الانتهاكات، التي يمكن أن يتعرضوا لها من قبل الغير "التشهير والتمييز والمعاملة السيئة"، وإيجاد بديل أفضل لقوانين الإخلاء كتأمين سكن بديل، وتشريع سياسات من قِبل الدولة تضمن التضافر بين القطاع العام والخاص - المتخصص في المجالات السكنية- ووضع شروط من شأنها توفير مبان سكنية بأسعار ميسرة تناسب الجميع، وإعداد خطط واستراتيجيات لخلق فرص عمل جديدة للقضاء على البطالة، ورفع مستوى دخل الفرد.
ظاهرة التشرد ليست جديدة، وعلى الفرد والمجتمع والدولة العمل بتعاون مشترك لمكافحة هذه الظاهرة، ولا بد من السؤال هنا أين هي وزارة الشؤون الإجتماعية من هذه الظاهرة؟ اين الجمعيات التي باتت في البلاد منتشرة في كل مكان وتحت اسماء إنسانية متعددة، حتى تختال أن لكل فرد جمعية تدعمه لكثرتهم ، يجمعون المال (البعض لكي لا نتهم الكل) دون أن يقوموا بواجباتهم الانسانية وايواء هؤلاء المساكين وحمايتهم؟
ايها المسؤول في هذه البلاد، تخيل أن أن الرصيف فراشك، والسماء سقفك، والجسور غطاؤك لتحتمي من الأمطار والبرد القارس، ولا ماوى لك إلا الجسور والأرصفة، تتسوق من المكبات ثيابا لترتديها و طعاماً لتسد به جوعك، نعم إنه مشهد يقشعر له البدن، هو واقع مؤلم بلا شك.
التشرد باق ويتمدد، لكن يبقى لدينا رجاء وأمل أن تستيقظ الدولة من غفوتها، وتنقذ ما تبقى من بلاد الارز بحكومة "الإصلاح والانقاذ".
يتم قراءة الآن
-
انجاز التعيينات الامنية الخميس... «تسوية» شقير وعبدالله أنقذتها؟ بري للخماسية: «وطني معاقب» واوتاغوس: مفاوضات الحدود قريبا الحجار يكسر الجمود... والبيطار على مشارف قرارات حاسمة!
-
أيّها الشرع زامير في دمشق
-
قلق من تداعيات مجازر الساحل... وردود فعل رسميّة خجولة؟ بلاسخارت تنقل أجواء سلبيّة من «اسرائيل»... متري: لا نزع للسلاح بالقوة إنجاز أمني للجيش شمالاً... وتحقيقات المرفأ تنطلق من جديد
-
قراءة في المتاهة الإيرانيّة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
10:45
رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إرنستو راميريز ريغو دعا خلال لقائه رئيس الجمهورية إلى ضرورة وضع خطة إصلاحية مالية موحدة تساعد لبنان على الخروج من أزماته والرئيس عون شدد بدوره على التزام لبنان بالمضي في تنفيذ الإصلاحات
-
10:44
الجيش اللبناني: ما بين الساعة 10.30 والساعة 16.00، ستقوم وحدة من الجيش بتفجير ذخائر غير منفجرة في جرد بلدة قوسايا - زحلة.
-
10:33
صحيفة "يديعوت أحرونوت": بعد مرور 17 شهراً على اندلاع الحرب لا تزال حماس القوة المهيمنة في غزة
-
10:32
إذاعة الجيش "الإسرائيلي": السيطرة على قمة جبل الشيخ السوري تمنح “إسرائيل” نقطة مراقبة على مساحات واسعة في لبنان و سوريا
-
10:31
عراقتشي: لم تصلنا رسالة ترامب حتى الآن ولكن من المقرر أن يتم تسليمها عبر إحدى الدولة العربية إلى طهران قريباً
-
10:31
إذاعة الجيش "الإسرائيلي": "الجيش" يبني موقعين عسكريين في قمة جبل الشيخ السوري و إسرائيل باقية هناك حتى إشعار آخر
