اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

حين أطلقت المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر "طوفان الأقصى"، كانت تدرك أن هذه العملية لن تكون مجرد مواجهة عابرة، بل ستكون نقطة تحول في الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من الوحشية التي ردت بها إسرائيل، فإن حجم المجازر في غزة لم يكن سوى مقدمة لما هو أوسع، فسرعان ما امتد الحريق ليشمل لبنان، حيث وجدت المقاومة نفسها أمام خيار لا مفر منه: فتح جبهة إسناد لغزة في مواجهة العدوان. لكن ما لم يكن متوقعًا هو أن تتحول المواجهة إلى حرب شاملة على لبنان، بدءًا من 19 أيلول 2024، حيث لم يكن الهدف العسكري وحسب، بل امتد ليشمل القيادات الكبرى في المقاومة، وعلى رأسهم سماحة الشهيد الأقدس السيد حسن نصرالله، الذي شكّل اغتياله نقطة مفصلية في مسار المواجهة. ورغم أن الحرب انتهت بعد 66 يومًا من الدمار والقصف، إلا أن تداعياتها لم تنتهِ، فالعدو لم يلتزم بالاتفاق الذي رعته القوى الدولية، وظل الاحتلال الإسرائيلي متمسكًا بجزء من القرى الحدودية، مستمرًا في عربدته وعدوانه. في المقابل، التزمت الدولة اللبنانية بالاتفاق، وسحبت المقاومة قواتها من الميدان، تاركةً الساحة للدولة اللبنانية لإدارة المشهد. لكن ما يجري اليوم يُظهر أن ما حدث في غزة ولبنان لم يكن إلا جزءًا من مشروع أكبر، يتم هندسته بأيدٍ أميركية-إسرائيلية، بمباركة وتواطؤ إقليمي.

لم تمر أيام على وقف إطلاق النار في لبنان حتى حدث ما لم يكن بالحسبان: سقوط نظام بشار الأسد بشكل درامي، ليس أمام "ثورة شعبية"، بل أمام مسلحي هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني، الذي تحول بين ليلة وضحاها من "إرهابي مطلوب دوليًا" إلى "رئيس شرعي لسوريا الجديدة" تحت اسم جديد: أحمد الشرع. لكن المفاجئ لم يكن فقط وصول الجولاني إلى الحكم، بل موقفه الأول بعد إعلان "النصر"، حيث سارع إلى طمأنة إسرائيل، مؤكدًا أن نظامه الجديد لا ينوي الدخول في أي صراع معها! كان هذا الإعلان كافيًا لكشف طبيعة المشروع الذي حملته تلك الجماعات منذ أكثر من عقد، حيث لم يكن الهدف تحرير سوريا، بل تمهيد الأرض لإسرائيل وأدواتها. ورغم هذه التطمينات، لم تكن سوريا بمنأى عن العدوان، إذ بدأت الطائرات الإسرائيلية بقصف المستودعات والمطارات ومراكز الأبحاث، في حين وصلت الدبابات الإسرائيلية إلى مشارف دمشق، في مشهد يعيد إلى الأذهان نكبات سابقة، لكن هذه المرة بمشاركة قوى كانت تزعم أنها تحارب "الاستبداد" و"الاحتلال".

لكن الأخطر من كل ذلك هو ما بدأ يحدث داخل سوريا بعد سيطرة هذه الجماعات على الحكم. فما إن سقطت دمشق حتى بدأ مسلحو "جيش سوريا الجديدة" الذين يدّعون أنهم "أحرار سوريا" بتنفيذ عمليات تطهير عرقي ومجازر مروعة بحق المدنيين، تحت ذريعة تصفية "فلول النظام". لكن الحقيقة أن الضحايا لم يكونوا جنودًا ولا مقاتلين، بل آلاف الأطفال والنساء والعجزة والشباب، الذين لم يكن لهم أي ذنب سوى أنهم ينتمون إلى طوائف أخرى، سواء كانوا علويين أو مسيحيين أو شيعة.

في مشهد أعاد إلى الأذهان أسوأ فصول الإرهاب، باتت المدن السورية مسرحًا لمجازر وحشية، تُرتكب تحت راية "تحرير سوريا"، بينما لم تُطلَق رصاصة واحدة على الدبابات الإسرائيلية التي كانت تجتاح البلاد! هؤلاء الذين تغنّوا لعقد من الزمن بشعارات الثورة والحرية، لم يجدوا سلاحهم إلا موجّهًا إلى صدور أبناء وطنهم، يذبحون ويقتلون بلا رحمة، بينما يقفون صامتين متخاذلين أمام الاحتلال الإسرائيلي وهو يرفع علمه في عمق الأراضي السورية.

هذا المشهد يكشف بوضوح الهدف الحقيقي لهذا المشروع: إسرائيل لا تحتاج إلى قتال مباشر إذا كان هناك من ينفذ مخططاتها من الداخل. وهكذا، تحوّل من كانوا يزعمون أنهم "يجاهدون ضد الظلم" إلى أدوات وظيفية في خدمة الاحتلال، ينفذون أجنداته بدماء السوريين الأبرياء.

ما كاد لبنان يلتقط أنفاسه من العدوان الإسرائيلي حتى بدأ يتعرض لتهديد من نوع آخر، لكن هذه المرة من الجبهة الشرقية، حيث بدأت مجموعات "جيش سوريا الجديدة" بقيادة الجولاني بشن اعتداءات على القرى اللبنانية الحدودية، عبر عمليات خطف وقتل وقصف بالصواريخ، في تماهٍ واضح مع المشروع الإسرائيلي الساعي لتشتيت المقاومة ومحاصرتها من جهتين. واللافت أن هذه المجموعات لم تجد في إسرائيل عدوًا، لكنها سارعت إلى استهداف لبنان، مستندةً إلى حملة إعلامية موجهة من القنوات العربية الداعمة للإرهاب، التي حاولت تبرير العدوان على لبنان وتصويره على أنه رد مشروع على استهداف مزعوم لعناصرها.

ما يجري اليوم في المنطقة لم يعد مجرد سلسلة من الحروب المتفرقة، بل هو جزء من مخطط استراتيجي لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يخدم المصالح الإسرائيلية. فبعد فشل الرهان على إسقاط محور المقاومة عبر الحروب المباشرة، انتقلت المواجهة إلى تكتيك جديد يعتمد على تفتيت الجبهات وخلق أعداء داخليين يشتبكون مع المقاومة بالوكالة. تحييد سوريا عن الصراع مع إسرائيل أصبح أولوية، وذلك عبر إيصال نظام جديد يتماهى مع المشروع الصهيوني، ويفتح المجال أمام الاحتلال للتوسع دون أي تهديد. وفي لبنان، يبدو واضحًا أن هناك محاولة لمحاصرة المقاومة من الجنوب والشرق، بحيث تصبح بين فكي كماشة، مما يسهل استهدافها عسكريًا وسياسيًا. وفي سياق أوسع، تسعى القوى الغربية إلى إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة عبر توريط بعض الأنظمة والجماعات في مشروع التقسيم، تحت ذرائع مختلفة، منها محاربة النفوذ الإيراني أو تحقيق "الحرية والديمقراطية".

في ظل هذا المشهد المعقد، يبدو واضحًا أن ما يجري في لبنان وسوريا وغزة ليس سوى محاولة جديدة لضرب محور المقاومة وإعادة رسم خريطة المنطقة. لكن كما أثبتت الأحداث على مدى العقود الماضية، فإن المشاريع الصهيونية التي تعتمد على أدوات محلية وإقليمية سرعان ما تنهار أمام صلابة الشعوب وقوة الإرادة. المقاومة في لبنان دفعت أغلى الأثمان من أجل فلسطين، وقدّمت قائدها وايقونة الاحرار في العالم السيد حسن نصرالله شهيدًا في هذه المعركة، بينما اختار آخرون أن يكونوا في صف العدو، يسندونه بدل أن يقاتلوه. لكن التاريخ لا يرحم، وسيسجل من وقف في وجه المشروع الصهيوني ومن كان خنجرًا في ظهر أمته. ورغم كل التحديات، تبقى الحقيقة واضحة: هذه المقاومة التي صمدت في وجه أعظم الجيوش لن تُكسر، وستنتصر، مهما بلغت التضحيات.

الأكثر قراءة

ما سر التوقيت الاسرائيلي بين قصف الضاحية واجتماع باريس ؟ عون وماكرون : الاعتداءات غير مبررة... من وراء الصواريخ اللقيطة ؟ الشرع يطالب بالضباط والودائع وابعاد حزب الله عن الجرود