اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لقد لجأ كتّاب الرواية في العصر الحديث إلى التاريخ فحاكوا قصصهم حول شخصياته المرجعية أو أحداثه، فتداخل الخيالي بالحقيقي، وأنطقوا الشخصيات التاريخية بما أصبح يحتاج إلى نقاش جدّيّ حوله، ومنهم من لجأ إلى التاريخ فانتقى حدثًا أو زمنًا أو مكانًا وتخيّل ناسه وأحداثه وأفعاله فنقلتها مخيلته لنا. أما الشعراء فقد لجؤوا إلى الأسطورة والرمز للتكثيف وللتجديد، أمّا جلال برجس، فقد لجأ إلى الأسطورة، ولكنه لم يكتب رواية تاريخية أو لجأ إلى الرمز والتكثيف، بل ألّف أسطورته الخاصة، بشخصياتها الأقرب إلى الواقعية، ولعنتها الأقرب إلى الغرائبية، فقدم لنا "معزوفة اليوم السابع" (دار الشروق 2025).

تبدأ الحكاية بأنّ الجدّ الأول، وبعدما ضاقت به قريته لفرط ما تعاظمت فيها البغضاء والحسد والضغائن، قرر الرحيل عنها وعدم المواجهة، فسار سبعة أيام ورافقته اليتيمة التي يتزوجها فيما بعد وتبدأ سلالتهم الجديدة، في المنطقة الطبيعية البِكر حيث سيستوطنون ويبنون مدينتهم الخاصة، التي ستتشكل فيها سبعة أحياء، ويكثر فيها الناس على اختلافهم، وقبل بناء المدينة كانت بقعة الكراهية السوداء قد بدأت تكبر بين أبناء السلالة التي تكاثرت بالفعل. وفي الليلة التي سقط فيها القتيل الأول، يُخرج الجدّ الناي من مخبئه، ولكنه لا يستخدمه وهو يعرف أنه منذور لزمن آتٍ، وعندما تراءى له المستقبل المخيف لأبناء سلالته، اعتزل في قمة جبله حيث يموت ويُدفن، ومن بعدها تكون الأحياء قد بدأت تنفصل أكثر فأكر، وتزداد الحروب والكراهية بينها أكثر وأكثر أيضًا. ولكنه يترك إرثًا هو مخطوطه والناي.

كل ما ورد هو المقدمة فقط لهذه الرواية، فأحداثها بالفعل تحصل في زمننا الحالي، حيث الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي والأسلحة المتطورة والسيارات، وحكايتها تبدأ مع عامل النظافة محبّ الموسيقا الغجري باختو، والعلاقة اللطيفة التي ستنشأ بينه وبين المصوّرة الفوتوغرافية توليب، الغجري الذي كان يهتم بهندامه ورائحته، والذي كان ابن شاندور الذي سيكبر دوره في النهاية. والغجر كانوا الأفقر وكانوا بالفعل سكّان الخيام، والبلاد محكومة بشكل غير علني من جماعة الطائر الأسود، وأهمهم جوناثان. تُصاب المدينة بوباء، وهو أنهم لا يرون أنفسهم في المرايا وفي ما يعكسها بالعادة، كالكاميرات، يرافق كل منهم نسخته الشبحية، التي تكرر لهم بأن لا خلص لهم إلا بالموت.

الأحداث تتطور فيما بعد بأن يحصل باختو على المخطوط الذي كان مقررًا حرقه، ويقرر قراءته فيعرف أنّ الجدّ اختاره ليجد الناي فيجد الحلّ ويشفي الناس، ويقرر فعلًا البحث عن الطائر الأبيض الذي تتوسط جبهته نقطة زرقاء، ومع إيجاد الطائر يجد الناي... هذه خطوط النصّ العريضة والتي بنيت حولها كل الحكاية، ومن ضمنها يحصل الانتحار ويظهر الدكتور أدهم الذي يواجههم فيُقتل، ويظهر المغنّي نوّار، ويظهر فايد الذي يغير موقفه في النهاية. ومع نهاية القصة يحكم الغَجَر بعد ظلم رافقهم أجيال وأجيال. ولكن يعود الشر ليُحكِم سيطرته من وجهة نظر النص وصاحبه.

من يبدأ بالقراءة لا يمكن أن يفصل الفكرة عن تناصّ بينها وبين "مئة عام من العزلة" لماركيز، ولكن لن أخوض في الأمر لأنه سيطول، ومن يتابع أحداث بلادنا اليوم، وخصوصًا أحداث سورية الأخيرة، ولو أن النصّ تأخر صدوره عدة أشهر بعد سقوط النظام ما رافقه، لقال إن الكاتب استقى أفكارًا كثيرة وردت في نصه من تلك الأحداث. ولكن هذا يحيلنا إلى دور المثقف، هذا المثقف الذي يمكن أن ينتج نصًّا يحاكي واقع بلادنا، وقد يحاكي واقع قضايا عالمية كبرى، لا بل يستشرف مستقبل البلاد من خلال إبداعه الخاص.

مدينة الجدّ الأول يمكن أن تكون أمكنة كثيرة، بل إنها بأحيائها السبعة قد تكون القارات السبع، ولكن لنعطي النصّ واقعية تُعنى بقضايا قريبة من واقع الكاتب، سنقول إنها أقرب إلى بلادنا، واختياره الناي، وهو من بيئة هذه البلاد، لهو دليل على أن برجس أراد أن يحكي "أسطورته" ليقول إن تاريخ البلاد سيعيد نفسه مهما حاول البعض التحذير من الأخطار، ومهما حاول البعض السعي للخروج منها نحو النور ونحو الجديد، وقد مرّ عليها رجال مثل "باختو"، إلا أنّ رجال "الطائر الأسود" قد عادوا دائمًا كما عاد جوناثان في نهاية الرواية.

تحكي الرواية قصة الوهم الذي يعيشه أبناء البشرية في هذا العصر، الوهم الذي تُحكم السيطرة عليه مجموعة مصالحها الخاصة هي أولوياتها وليس أي أمر آخر، وهنا يمكن أن نقول إن الرواية لم تأتِ بجديد، وإن قسنا وباء الرواية على أوبئة كثيرة، مرضية وجسدية كثيرة، أو يمكن أن نقول إنها قد تكون "الترند" المسيطر اليوم مثلًا، وما يرافقها من حروب وموت واضطرابات، وقد تكون أوهامًا خاصة بالشهرة، أو أوهامًا بالعدالة والحرية والديمقاطية، أو أوهام الثراء وغيرها، كلها يمكن أن يكون قد قصد أحدها النص، وأنا أقول إنه قصدها كلها. ولكن ما الجديد الذي قدمه، فالكلام من خلال قصص خرافية وشخصيات أسطورية حصل كثيرًا واستخدمه كتّاب كثر؟

أقول إن الجديد كان في إعادة ترتيب العناصر، وفي التوقيت الذي خرج فيه هذا النصّ إلى المتلقي العربي، فنقد مراحل تاريخية وسياسية وحُكّام بعينهم قد قرأتُ عنه كثيرًا في المرحلة الأخيرة، وسقوط أنظمة مع وهم بأن القادم أفضل قد حصل أمامه بالفعل، والحروب التي ما زالت منتشرة والموت معها، لذا، برأيي، قرر جلال برجس أن يحكي مواقفه من خلال إلباسها أردية تحجب ما قد يختلف عليه الناس في السياسة والكيانية والطائفية وغيرها، ليقول إنها أحياء سبعة لمدينة واحدة، والغجر فيها ما زالوا يمتلكون بساطة قد نحتاج اليها، وهو بالفعل يجعل غجريًّا يحكم، وقد مهّد إلى أنه قد يصبح مشروع حاكم متسلّط جديد، إلى أن تأتي النهاية لتعيد إلى الأذهان أنّ أبناء الطائر الأسود لن يستسلموا وسيعودون مهما حاول صوت الناي والطيور البيضاء السيطرة.

ميزة النصّ لغته المحبوكة والمشغولة بعناية المحترف، والممتلك لغةً لا تشوبها هناتٌ أو إغراقات في التبسيط ولا التعقيد، وقد اختار الكاتب الابتعاد عن أية "محكية" لأنّ أسطورته لا بدّ وأن يسقطها كلّ متلقٍّ على واقعه الذي سيختلف عن متلقٍّ آخر، وهذا ذكاء يُحسب للنص ولصاحبه، وقد جاء ابتعاده عن المحكية في مصلحة النصّ على الرغم من أنّ بعض الحوارات كان يمكن أن تكون واقعية أكثر لو أنه لجأ إلى أحدها، ولكنه كان سيفقد النصّ "أسطوريته".

مأخذ واحد على الرواية وهو في فصلها ما قبل الأخير، فالأحداث بتفاصيلها كانت في مجملها عادية ومتوقَّعة، وكانت تمهّد للفصل الأخير بشكل لم يكن بقوة أحداث الفصول السابقة، وفي الفصل الأخير، وبعدما يكون النص قد أوهم القارئ بأنّ شاندور سيتحول إلى حاكم يشبه من قبله بسبب لعنة السلطة، تكون النهاية مختلفة، ولكنها أعمق وأقرب إلى التصديق، وأقرب إلى براعة الكاتب المتوقَّعة بالفعل.

هي رواية لمحترف الرواية، وإمساكه بكل المضامين والأركان والخيوط توضح أن الرواية صنعته وملعبه، وما استشرفته وما قدّمته هو حاجة في هذا الزمن الذي لا موقع للمثقف الفعلي فيه، علّها تكون لبنة ليستعيد هذا المثقف دوره في بلاده. 

الأكثر قراءة

عون يتجاهل الجدول الزمني «وينفّس الاحتقان» حول السلاح قائد الجيش «يضع النقاط على الحروف».. و«الثنائي» مرتاح سباق بين الديبلوماسية والمواجهة وجنبلاط يحذّر من الحرب