في بلد يرزح تحت أزمات خانقة، لم يكن متوقّعًا أن يُشعل "خيار ثالث" في استبيان إلكتروني موجّه للتلامذة عاصفة جدل تربوي واجتماعي. ما حدث مع وزارة التربية اللبنانية تجاوز استبيانًا تقنيًا، ليطرح أسئلة عميقة حول الهوية والثقة والشفافية، ودور الدولة في مقاربة القضايا التربوية الحساسة. ففي الاستبيان المخصّص لجمع آراء المتعلمين حول الإصلاح التربوي، ورد سؤال حول تحديد الجنس بثلاثة خيارات: "ذكر"، "أنثى"، و"أفضل عدم الإجابة "، وكان إلزاميًا. ما إن طُرح هذا الخيار حتى أثار موجة استنكار، ووُصف بأنه استدراج ناعم لمفاهيم غريبة عن النسيج الثقافي اللبناني، وفتح باب الاتهامات بترويج أجندات مشبوهة تمسّ بالهوية. وبرزت تساؤلات جوهرية: هل يجوز لوزارة التربية، في بلد متعدّد الطوائف وحسّاس تجاه قضايا الهوية، أن تمرّر خيارًا رمزيًا ملتبسًا دون شرح؟ وهل "أفضل عدم الإجابة " حيادي فعلًا، أم مدخل لتأويلات تتجاوز البعد التربوي إلى السياسي والأخلاقي؟ القضية كشفت خللًا يتجاوز اللحظة، لتطرح أسئلة تربوية عميقة: كيف نربّي؟ وماذا نعلّم؟ وأين تنتهي حدود الانفتاح وتبدأ منزلقات الرمزية؟ إنها لحظة تستدعي مراجعة واعية للسياق الثقافي، حفاظًا على التوازن بين التطوير والهوية.
ما زاد الجدل أن خيار "أفضل عدم الإجابة "، الذي قد يبدو حياديًا، جاء بصيغة إلزامية لا يمكن تجاوزها، ما أضفى عليه بُعدًا إشكاليًا. فبدل أن يُفهم كامتناع، بدا كإقرار ضمني بوجود خيار ثالث يتجاوز الثنائية البيولوجية، ويفتح باب التأويلات في سياقات دولية تعيد تعريف مفاهيم "الجندر" و "الهوية الجنسية" داخل المؤسسات التربوية. فهل كان إدراج الخيار مجرد خطأ تقني، أم فعلًا محمّلًا برسائل رمزية تستدعي نقاشًا تربويًا شفافًا؟ ولماذا الصيغة "أفضل عدم الإجابة " بدلًا من "خيار آخر" كما هو معتاد في الاستبيانات الإلكترونية؟ أليس في ذلك مؤشر على تدخّل بشري يُخرج الأمر من دائرة الصدفة إلى دائرة التوجّه المقصود؟
سارعت وزيرة التربية إلى إصدار بيان وصفت فيه الجدل بأنه "حملة مضللة"، وأكدت أن خيار "أفضل عدم الإجابة " لا يعني هوية جندرية ثالثة، بل هو "حق في عدم ذكر الجنس"، وقد حُذف بعد خمس دقائق لتفادي الالتباس. لم يُنهِ التوضيح الجدل بالنسبة لكثر، بل عمّقه، لأنه عبّر عن قلق أوسع تجاه التوجّهات التي تحكم السياسات التربوية. ورغم حذف الخيار، بقيت الأسئلة معلّقة، لا على المستوى التقني فقط، بل على مستوى الهوية والقيم. رأى كثيرون أن تبرير الوزيرة أغفل نقطتين أساسيتين: أولًا، أن البيئة التربوية في لبنان ليست محايدة ثقافيًا، بل شديدة الحساسية تجاه قضايا الهوية، ما يتطلّب معالجة مدروسة لا قرارات مباغتة عبر منصات رقمية. وثانيًا، أن إلزامية الإجابة حوّلت "عدم الإجابة " من خيار حيادي إلى ضغط رمزي، وحوّله من حيّز الامتناع إلى خانة الإقرار الضمني بوجود هوية ثالثة، وهو ما يكفي لفتح باب التأويل لدى الطالب، خصوصًا في ظل سياقات دولية تدفع نحو إعادة تعريف مفاهيم "الجندر" و"الهوية الجنسية" في التعليم.
ما اعتبره البعض خيارًا "محايدًا"، رآه كثيرون – بحق أو توجّس – مدخلًا مبطنًا لفرض أدبيات "الجندر" داخل النظام التربوي، ما أثار استنكارًا شعبيًا واسعًا. فقد بدا هذا الخيار كقفزة على الثنائية البيولوجية التي لطالما شكّلت القاعدة التعليمية والأنثروبولوجية في المجتمع اللبناني، ومحاولة غير معلنة لإدخال مفاهيم لم تُناقش بعد في إطار وطني يراعي الخصوصيات الثقافية والدينية. أما اعتبار "أفضل عدم الإجابة " صيغة حيادية، فيتعارض مع مبادئ العلوم الاجتماعية التي ترى أن الامتناع عن التصريح في قضايا الهوية لا يخلو من دلالة. فـ "اللاموقف" قد يُخفي موقفًا ملتبسًا أو متحفّظًا يرغب صاحبه في التخفيف من تبعاته، فكيف إذا طُرح على تلامذة لم يبلغوا سن النضج الفكري والقانونيّ الكامل، وطُلب منهم اتخاذ موقف في مسألة حساسة؟
في السياق اللبناني، غالبًا ما يُغفل التمييز بين "الجنس" كمعطى بيولوجي ثابت، و"الجندر" كهويّة متحوّلة ناتجة من عوامل اجتماعية ونفسية وثقافية. هذه الفجوة المفاهيميّة تعكس غياب رؤية واضحة لدى بعض المؤسسات التربوية، وهو ما لمسته خلال مناقشة أطروحة دكتوراه، حين سأل أحد أعضاء اللجنة عن سبب غياب "الجندر الثالث" في استبيان الطالب. جاء رد الطالب حاسمًا في التمييز بين الجنس البيولوجي والجندر كمفهوم خلافي لا يتبنّاه. المفارقة الصادمة لم تكن في مضمون السؤال فحسب، بل في توقيته: فقد طُرح أمام ولدين مراهقين كانا يحضران الجلسة بدافع الفخر بوالدهما الطالب، لا لسماع خطابات تأويليّة مربكة تفتح أبوابًا فكرية لا تتناسب مع عمرهما. كانت لحظة كاشفة بأن معركة الوعي لا تُخاض دائمًا في الساحات الكبرى، بل تبدأ من تفاصيل صغيرة تحمل بذور التحوّل الأخلاقي والثقافي.
هذه الواقعة ليست معزولة، بل تعكس توترًا عالميًا حول قضايا الهوية في التعليم. في كندا، أثارت سياسات تتيح للطلاب تحديد "نوعهم الاجتماعي" دون علم الأهل جدلًا تشريعيًا. في فرنسا، واجهت وزارة التعليم احتجاجات بسبب محتوى يشجّع الأطفال على "استكشاف الهويات الجندرية". وفي بريطانيا، أُلغي مشروع مماثل تحت ضغط الأهالي، وفي ألمانيا، رغم الاعتراف القانوني بخانة ثالثة، خضع تطبيقها المدرسي لنقاش واسع.
تكمُن خطورة ما حدث في أنه مسّ بُعدًا تربويًا جوهريًا: ما الرسائل التي تنقلها اللغة حين نطرح على التلامذة سؤالًا عن الجنس يتضمّن خيارًا ثالثًا غامضًا؟ في غياب التوضيح، لا يبقى الاستبيان أداة محايدة، بل يتحوّل إلى ناقل لمفاهيم إيحائيّة معقّدة قد لا يكون التلامذة أو أهاليهم مستعدين لها نفسيًا أو ثقافيًا. وعند غياب التفسير، تتحمّل الوزارة مسؤولية تربوية، لأن اللغة في التربية ليست أداة تواصل فقط، بل وعاء للقيم والمعاني. السؤال لم يعد: "هل شُطب الخيار الثالث؟"، بل: "كيف أُدرج أصلًا؟ من صاغه؟ لماذا جُعل إلزاميًا؟ وهل تملك الوزارة أدوات رقابة ومعايير للتعامل مع استبيانات بهذه الحساسية؟"
ما جرى كشف ثُغرًا في منظومة اتخاذ القرار، وغياب الحوكمة التربوية التي ينبغي أن تضمن قياس رأي الطلاب دون الوقوع في مطبّات رمزية. لقد فتحت هذه الحادثة بابًا لا يجوز إغلاقه، إذ كشفت فراغًا تشريعيًا ورقابيًا وأخلاقيًا في مقاربة قضايا الهوية داخل الإطار التربوي، وأظهرت خللًا في آليات القرار، حيث تغيب الشفافية وتُقصى "الشراكة" مع المجتمع التربوي. من هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة أدوات جمع البيانات، وضمان شفافيتها ووضوح أهدافها، وخلوّها من الإيحاءات الأيديولوجية. كما تقتضي الضرورة فتح حوار فعّال مع المجتمع الأكاديمي واللجان الأهلية، وإنشاء هيئة استشارية مستقلة تراجع المواد والأسئلة الموجّهة للطلاب، لضمان التوازن بين التحديث وصيانة الهوية. فالمنصات التربوية ليست ميادين تجريب، بل جسور ثقة بين الوزارة والمجتمع. وقد تجلّى عمق هذا الشرخ في جلسة لجنة التربية النيابية، حيث عبّر نواب، في حضور الوزيرة، عن رفضهم لما اعتبروه مساسًا بالثوابت باسم "الشعب اللبناني والقيم الأخلاقية". إقرار الوزيرة بمسؤوليتها لم يُنهِ الجدل، بل كشف هشاشة الحوكمة التربوية، وغياب آليات التشاور والرقابة في تمرير سياسات تُلامس قضايا الهوية.
ما حدث لا يُعدّ تفصيلًا عابرًا، ولا يُسوّى ببيان توضيحي ينتهي بجملة "تأمل من الجميع التأكد من صحة الخبر". فالمسألة ليست مجرد خطأ تقني، بل زلّة لغوية تحمل مشروعًا قيمياً كاملاً. المسؤولية التربوية تفرض الحذر في إدخال قضايا خلافية قبل نضوجها في الفضاء العام عبر نقاش مدني مفتوح. التدخل النيابي الحاد أظهر أن الاستبيان لم يُنظر إليه كخلل تقنيّ، بل كمؤشّر لتحوّل في الخطاب التربوي، يتطلّب يقظة رقابية وتشريعية مضاعفة. من هذا المنطلق، لا يُعدّ الدفاع عن القيم موقفًا رجعيًا، بل حماية لحق الطفولة في بيئة متزنة، لا تُثقلها بأسئلة مبكرة، ولا تُقحمها في متاهات رمزية باسم الحياد أو ضغوط خارجية.
إن وزارات التربية ليست منصات اختبار للمفاهيم العائمة، ولا مختبرات تُسقِط فيها الأفكار على التلامذة بعناوين ملتبسة، بل هي خط الدفاع الأخير عن النسيج القيمي لأي وطن، وقلعة الهوية التي إن تخلّت عن وضوحها، ضاعت الأجيال في دوامات اللايقين. فالتربية ليست مسرحًا لهويات مرنة، ولا ساحة للمعارك الرمزية، بل منظومة تُبنى على الوضوح، والتدرّج، والمسؤولية، وليست مكانًا للرماد، بل للحقيقة. لأنّ التربية، ببساطة، ليست مجالًا للخطأ العابر، بل يجب أن تكون آخر موضع نقبل فيه ما يُسمّى بـ "الزلات التقنية"، التي قد تُختصر في سطر... لكنها تُفسَّر في مجتمع بأكمله. وإن لم تنتبه الدولة لهذا الحد الفاصل بين مواكبة التحولات والانجرار خلف إملاءات منظمات دولية تروّج لنماذج جاهزة، فسنجد أنفسنا يومًا في مواجهة جيل يُسأل عن جنسه قبل أن يُسأل عن علمه، ويُربّى على الالتباس قبل أن يُربّى على الانتماء.
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:02
بيان مصري - سعودي: نؤكد على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها وأهمية شمولية العملية السياسية، وعلى أهمية حل الدولتين ونرفض بشدة محاولات تهجير الفلسطينيين من أرضهم في غزة أو الضفة.
-
22:53
القناة 13 "الاسرائيلية" عن لابيد: إذا غادر رونين بار رئاسة الشاباك فإن نتنياهو سيعين دمية ستلغي التحقيق وتمنع محاكمته.
-
22:52
القناة 13 "الاسرائيلية" عن لابيد: الحكومة لا تعرف كيف تجند عددا كافيا من الجنود ولا تعرف ما الذي سيحدث في اليوم التالي، وهناك مواد استخباراتية تشير لإمكانية وقوع اغتيال سياسي ونتنياهو يعلم ذلك ويمكنه منع حدوثه.
-
22:51
القناة 13 "الاسرائيلية" عن زعيم المعارضة يائير لابيد: نتنياهو وسموتريتش يبيعان معادلة كاذبة إما النصر بالحرب أو إعادة الرهائن وهذا غير صحيح، والحكومة لن تنتصر في الحرب لأنها لا تعرف كيف تنتصر.
-
22:50
هيئة البث "الإسرائيلية": سلاح الجو أجرى اليوم تدريبا يحاكي هجمات صاروخية على قواعده الجوية، والتدريب يأتي ترقبا لرد إيراني على أي هجوم محتمل في إيران.
-
21:42
نائب رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ مارك وارنر: هيغسيث غير كفؤ أبدا ليكون وزير دفاعنا وعليه أن يرحل.
