اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لم تعد الحروب تُخاض بالأسلحة والجيوش وحدها. اليوم يشهد العالم نوعًا جديدًا من الصراع: حروب الوجوه المصنّعة بالذكاء الاصطناعي. وجوه مألوفة، ناعمة الملامح، خبيثة الابتسامة، لا تنتمي الى أحد، تتقن لغة ولهجات الشعوب المستهدفة، تظهر فجأة على الشاشات، في الأخبار، تندسّ في التعليقات والنقاشات، تبني الثقة بصمت، تزرع الشك، تنشر الأكاذيب، تتسلّل إلى العقل لتغيّر القناعات، تخلق الفتنة، وتخدم أهدافًا خفيّة، محدثةً آثارًا أعمق من الطلقات دون أن تكون حقيقية.

"إسرائيل" أوّل من أدركت قوة استخدام الأڤاتارات (Avatars) -الشخصيات الافتراضية المدعومة بالذكاء الاصطناعي - في العمل الاستخباري لاختراق المجتمعات، التأثير في الرأي العام، بثّ التضليل، وشنّ الحروب النفسية بغطاء رقمي محكم يصعب كشفه أو رصده. ومع تصاعد التمدد الخفي "للأڤاتارات" الإسرائيلية في الفضاء الرّقمي العام، تبرز أسئلة ملحّة: كيف نعرف أن ما نتابعه لم يُفبرك في مختبرات الاستخباراتي الإسرائيليّة؟ ومن يضمن أن من نحاوره ليس قناعًا رقميًا بمهمة خبيثة؟ كم منّا يتعرّض للخداع دون أن يدري؟ ومن يحمي المجتمعات من هذه الحروب الصامتة التي تُخاض بآلاف الوجوه الوهمية لنسج مصير الشعوب بخيوط رقمية خفية؟

من بين أكثر النماذج الصادمة في عالم "الأڤاتارات الاستخباراتية الإسرائيلية"، تبرز قضية "أنيتا بيتيت" Anita Pettit كأحد الوجوه الناعمة التي خُصصت لأداء أخطر المهام في ميدان التخريب الرقمي. كشف تحقيق استقصائي موسّع أجراه تحالفStory Killers، بمشاركة أكثر من 30 غرفة تحرير عالمية، أن "بيتيت" التي عُرفت كصحافية فرنسية - غانيّة تنشر تقاريرها الجريئة والمشحونة بالآراء الحادة على موقعها "من أجل الحقيقة" (Pour La Vérité)، كما في وسائل الإعلام الأفريقية الجماهيرية مثل La Revue de l’Afrique وNet Afrique، ومنصات مشابهة يتجاوز جمهورها 4.2 مليون شخص، لم تكن سوى شخصية افتراضية خالصة. هذا "الأڤاتار العميق" طُوّر من قبل شركة Percepto International، وهي شركة استخباراتية إسرائيلية، ليُستخدم ضمن حملات ممنهجة لاختراق الإعلام، التأثير في الانتخابات، وتشويه سمعة منظمات دولية.

إحدى أبرز العمليات استهدفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) في بوركينا فاسو، حيث زرعت Percepto، مقالًا مفبركًا في مجلة Valeurs Actuelles الفرنسية، يدّعي زورًا أنّ الصليب الأحمر متورّط مع جماعات جهاديّة تحت غطاء العمل الإنسانيّ. نشر المقال كان الخطوة الأولى ضمن خطة مدروسة. بالتزامن مع صدوره، أطلقت شبكات اجتماعية مزيّفة تدار عبر "أڤاتارات" تابعة لـ Percepto حملة تضخيم ممنهجة للرواية الكاذبة عبر منصات التواصل الاجتماعي، مما أثار موجة كراهية واتّهامات ضد المنظمة، وهدّد سلامة موظفيها كما أكّد مدير قسم أفريقيا في اللجنة، باتريك يوسف، لموقع Forbidden Stories.

ما تفضحه هذه الحملة يتجاوز التزوير الإعلامي التقليدي، ليكشف آلية مكتملة لـ "هندسة السرديات": تبدأ المعلومة المفبركة عبر شخصية افتراضية موثوق بها، تنتشر عبر منصات مُعتبرة، ثم يُعاد تضخيمها عبر جمهور مزيّف من "الأڤاتارات"، لتتحول إلى "واقع رقمي" يصعب التشكيك فيه. الأخطر أن هذه الروايات لا تُقدَّم كآراء مشبوهة، بل كـ "حقائق" مدعومة بأدلة مزوّرة وتفاعلات تبدو بشرية تمامًا، إلى درجة تجعل كشفها مهمة شبه مستحيلة. ووفقًا لتقرير مرصد الديموقراطية الرقمية في أفريقيا (ADDO)، صُممت شخصية "أنيتا بيتيت" باحترافية مذهلة، حيث استُخدمت ملامح مركبة من نساء حقيقيات، بينهن العارضة الأميركية Sydney Graham والمهندسة الجامايكية Sherri-Ann Wellington، وسُرِق محتوى صحفي من مواقع معروفة مثل Le Monde وLa Croix، مع تلاعب بالصور (عكسها، قصّها، وتحريف أصولها) للتمويه وإفلاتها من أدوات الكشف الرقمي. أما المدير التنفيذي لشركة Percepto، روي بورستين (Royi Burstien)، فتفاخر بأن الشركة تدير "عشرات الأصول الرقمية" في أفريقيا، مشيرًا إلى أن "أنيتا بيتيت" كانت عنصرًا محوريًا في ثلاث عمليات كبرى، توزعت بين فرنسا ودول أفريقية أخرى، وتسببت إحداها بهجوم إلكتروني واسع من نوع DDOS على موقعها المزيّف، بعد يوم واحد من نشر تقرير استهدف خصوم أحد عملاء الشركة.

لم تكن بيتيت المثال الوحيد. فقد كشف تحقيق صحيفة Haaretz في فبراير 2023 بعنوان "أصدقاء مزيفون" عن نشاط شركة Terrogence الإسرائيلية، التي طورت مئات الحسابات الوهميّة على وسائل التواصل، مستخدمة صورًا مولدة بالذكاء الاصطناعي على هيئة وجوه بشرية لا وجود لها في الواقع، عبر تقنيات "التزييف العميق" (Deepfake) . استُخدمت هذه "الأڤاتارات" لاختراق مجموعات مغلقة، والتقرب من صحافيين وناشطين وأكاديميين ومنظمات مجتمع مدني عبر بناء ثقة زائفة، منتحلة شخصيات طبيعية أو زميلة عمل، وهي في الحقيقة منتج مخابراتي لجمع المعلومات وتحليل السلوك والتواصل الشبكي ضمن ما يُعرف بـ"التجسس الاجتماعي". من أبرز ما ورد في التحقيق أن هذه الشخصيات الرقمية (الأڤاتارات) صُممت لتبدو قريبة من ضحاياها: تتفاعل مع منشوراتهم، تُظهر اهتمامًا بقضاياهم، وتبني علاقة متينة، قبل أن تُوظّف لجمع بيانات تُستخدم لاحقًا لأغراض غير معلنة. كما كشفت مجموعة StoryKillers عن شركة إسرائيلية أخرى تُدعى "تيم خورخي" (Team Jorge – TJ)، يديرها ضباط استخبارات سابقون، تدير جيشًا من نحو 30,000 حساب وهمي، تستخدم روبوتاتها لتعليقات جماعية ومشاركة المحتوى، بهدف نشر دعاية عملائها بسرعة عبر حملات منسقة، مع نشاط ملحوظ في حوالى 20 دولة.

في فبراير 2019، كشف تحقيقThe New Yorker بعنوان "موساد خاص للإيجار" عن نشاط شركة Psy-Group الإسرائيلية، بقيادة الضابط السابق رويي بورستين، المدير التنفيذي الحالي لشركة Percepto، والتي استخدمت "أڤاتارات عميقة" لخوض حروب خفية تهدف إلى تضليل الرأي العام وتشويه الخصوم، شعارها) Shape Reality شكّل الواقع وتُعرف بالأوساط الأمنية بـ "الموساد الخاص". نفّذت Psy-Group حملات رقمية شرسة، منها التشهير بالمرشحة Senovia Gutiérrez في كاليفورنيا مقابل 230 ألف دولار، وقدّمت عروضًا لحملة ترامب 2016 لتنفيذ حملات تأثير رقمي، حيث تباهى مؤسّسها Joel Zamel بدور شركته في فوزه. أخطر مشاريعها كان "عملية Butterfly" ضد ناشطي BDS بالجامعات الأميركية، عبر أڤاتارات تجمع معلومات وتشوّه السمعة بدعم متبرعين أميركيين ومشاركة شخصيات استخباراتية إسرائيلية مثل Ram Ben-Barak. كما عملت Psy-Group على مشاريع في جورجيا وأوكرانيا باستخدام التضليل الرقميّ، وقد حذر Tamir Pardo، رئيس الموساد الأسبق، من أن هذه التقنيات تمثل "قنبلة موقوتة تهدد الديموقراطية". ورغم إغلاق Psy-Group عام 2018 بعد تحقيقات الـFBI، استمر النموذج عبر شركات مثل Black Cube وسط غياب الرقابة.

لم يكتفِ الأڤاتار الإسرائيلي بأن يكون أداة حرب أو تجسّس، بل تحوّل إلى سلطة تقييمية تُصدر أحكامًا على البشر. مشروع جديد للجيش الإسرائيلي عن الأڤاتار "يوفي Yuvi" كشفت عنه صحيفة Haaretz في نهاية 2024، وهو أڤاتار ذكي أُنشئ لإجراء مقابلات تجنيد، وتحليل الانفعالات والتفكير واتخاذ القرار لدى المتقدمين، دون إيضاح آلية التقييم المعتمدة. "يوفي" لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يرصد تعبيرات الوجه، نبرة الصوت، الحركات الدقيقة، ويقارن الأداء بملايين البيانات السابقة قبل أن يُصدر توصيات حاسمة لتحديد ملاءمة المجند، الذي لا يعلم ما يُسجّل عنه، ولا كيف تُفسَّر البيانات، ولا يملك حق الطعن في تقييم قد يحدد مستقبله العسكري. ما يعكس تحوّل العلاقة بين الفرد و "الدولة" من تفاعل إنساني إلى تقييم خوارزمي مغلق لا يمكن الاعتراض عليه.

بالتوازي، أطلقت وزارة الخارجية الإسرائيلية شخصية رقمية تُدعى" لئا" Lea، وهي متحدثة افتراضية رسمية باسم "الدولة"، تتحدث بثماني لغات، وتظهر بوجه أنثوي محسوب بعناية، مصمّم لتوليد الثقة وتعزيز الاستقبال العاطفي للرسائل. "لئا" لا تفسّر بل تؤثّر؛ خطابها مبرمج، مقولب، يتّسم بالنعومة والاتساق، ويهدف إلى تشكيل صورة ذهنية جديدة "لإسرائيل" في وعي المتلقي العالمي. وتجدر الإشارة إلى أن "إسرائيل" ستطلق في أوّل أيار المقبل برنامجًا تجريبيًا على مستوى الكيان، لاستخدام "أڤاتارات" تعليميّة تفاعلية لمرافقة الطلاب في دراستهم، وتقديم دروس فردية بأسعار منخفضة.

بعد 7 تشرين الأول 2023، وتصاعدًا مع العدوان الإسرائيلي على لبنان في أيلول 2024، كثّفت إسرائيل حربها السيبرانية مستهدفة شبكات التواصل الاجتماعي كساحات قتال جديدة. بات الـAvatar الرقمي أداة مركزية ضمن حملات التضليل والحرب النفسية التي تديرها أجهزة استخبارات إسرائيلية أو شركات خاصة كـPercepto في لبنان، حيث رُصد ازدياد لافت لحسابات وهمية تنشر تعليقات مسيئة ومضللة ضد حزب الله، بهدف التشكيك في وطنيته وتحريض اللبنانيين عليه، عبر تغذية الانقسامات وتعميق الشرخ الداخلي. تعتمد هذه الحسابات استراتيجيات مدروسة: إثارة الجدل، تشويه السمعة، زرع السخرية، بث الإشاعات، وترويج روايات مزيّفة تبرر الاعتداءات الإسرائيلية بلغة إنسانية خادعة. تنتشر هذه الأنشطة على فيسبوك، إنستغرام، تويتر (X)، يوتيوب وتيك توك، حيث تُستخدم الأڤاتارات لتوجيه الرأي العام، مع تكرار التعليقات من حسابات وهمية خلال البثوث المباشرة على يوتيوب. تنتحل هذه الحسابات هويّات"مواطنين لبنانيين"، مستخدمة لهجات محلية وصورًا مولّدة بالذكاء الاصطناعي يصعب كشف زيفها، وتُصاغ نصوصها بلغة محكمة وعاطفية لزيادة الاختراق والتأثير النفسي.

في زمن الأڤاتارات، لم يعُد السؤال "ما الذي نراه؟" بل "من الذي أراد لنا أن نراه؟". لم يعُد المحتوى هو ما نستهلكه، بل ما يُصنع خصيصًا لنا، بلغتنا، بثقافتنا، وبنبرةٍ نرتاح لها. تُزرع الأفكار لا بالجدال، بل بالإيحاء، لا بالخطاب، بل بالشبه. أمام هذه الحرب الخفية، لا يكفي أن نُحسن قراءة الشاشات، بل علينا أن نُحسن قراءة النيات خلفها. فالوعي الرقمي اليوم لم يعد ترفًا، بل صار سلاح بقاء. مقاومة الوعي الزائف واجب كل فرد، حتى لا تتحول عقولنا إلى ساحات مفتوحة لاحتلالات ناعمة، تقضم حقيقتنا وتعيد تشكيلنا كما تشاء.

أڤاتارات "إسرائيل" التي تبتسم على الشاشات ليست مجرد وجوه، بل أسلحة نفسية رقمية مبرمجة للاختراق دون إنذار. إنّها أدوات حرب وتجسس وتأثير ورسائل مبرمجة لتفكيك الداخل. فلنحذر، ولنُعِد تمركز وعينا أمام أخطر حربٍ تُخاض بلا سلاح، كيلا نُهزم، لا برصاصة... بل بابتسامةٍ رقميّة مصمّمة بإتقان. 

الأكثر قراءة

لغز بشار الأسد ودولة رامي مخلوف