في زمنٍ تتداعى فيه القيم الأسرية كما تتساقط جدران منزلٍ مهجور، يغدو النضج العاطفي للزوجين أشبه بحبل نجاة في بحر متلاطم من الخيبات. ليس الرشد مجرد مشاعر دافئة مؤقتة، بل هو قدرة واعية على بناء بيت من الحوار والاحتواء، بدلاً من أن يتحول المسكن إلى سجن صامت تحت وطأة ما يسمى بالطلاق الأسود، حيث يعيش الزوجان معاً أجساداً بلا أرواح، حفاظاً على قشور اجتماعية خاوية، او قد ينتهي بهما المطاف نحو انفصال كلي يمزق العائلة ويشتت الأطفال، ويدفع بهم نحو دور رعائية قد لا تكون آمنة.
في عالم تتسرب فيه الأخبار عن معاناة الأطفال في مراكز الايواء، حيث تغيب حرارة العائلة وتحل مكانها جدران باردة وأيدٍ غريبة، يصبح الإعداد النفسي والاجتماعي للزواج مسؤولية لا ترفاً. إن غرس بذور الفهم والنضج في قلب العلاقة الزوجية، من خلال جلسات إشرافية مع اختصاصيين نفسانيين أو اجتماعيين، هو الضمانة الوحيدة ألا يتحول الأبناء إلى أيتامٍ عاطفيين، وهم ما زالوا بين أيدي آبائهم وأمهاتهم.
بناء على ذلك، يحوّل غياب النضج العاطفي الحياة الأسرية إلى معركة باردة، تُخاض بصمت قاتل، ينمو تحتها الأطفال كأزهار برية في تربة قاحلة، بلا ماء الحب ولا شمس الأمان. وأسوأ ما يمكن أن يحدث، أن يجد الطفل نفسه إما رهينة بيت منهار صامت، أو أسير مؤسسات رعائية مهما حسنت نياتها، تبقى عاجزة عن نسج الدفء الذي تصنعه العائلة فقط.
من هنا، يبدو واضحاً أن النضج العاطفي ليس مجرد ترف فكري، بل هو الحصن الأخير أمام تشرّد الأطفال في طرقات الحياة الموحشة. فمن أراد أن يؤسس بيتاً حقيقياً، عليه أولاً أن يبني ذاته عاطفياً، ليتسع قلبه لا لطفل واحد، بل لأجيال بأكملها.
حالات الطلاق والزواج
في لبنان (2023-2024)
من المؤسف ان البيانات الرسمية الخاصة بحالات الطلاق والزواج في لبنان للسنتين المنصرمتين لم تصدر حتى الآن، وهذا يترك المجال لمزيد من التحليل والتساؤلات حول الوضع الاجتماعي. بالنظر الى الأرقام المتاحة لعام 2022، والتي أظهرت ان معدل الطلاق بلغ 26.5% من عقود الزواج، يبدو ان الاتجاهات قد تستمر في تصعيد التحديات الاجتماعية، وخاصة في ظل الازمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها العائلات اللبنانية.
في هذا السياق، لا يمكننا ان نتخيل كيف ان هذه الأرقام قد تعكس واقعا أعمق في بنية العائلة، ربما نتيجة للضغوط التي تتراكم على الاسر، وربما يكون النضج العاطفي، أحد المفاتيح للتعامل مع هذه الصعوبات.
التفاهم "أولى"
وسط هذه المعطيات المبهمة لحالات الطلاق المحلية، الى جانب انعدام النضج العاطفي، بما في ذلك اهتزاز الثقة بالمؤسسات الرعائية، توضح الاختصاصية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ "الديار انه "في خضم التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، تبرز الحاجة الملحّة الى إعادة التفكير بمفاهيم الزواج والإنجاب، ليس فقط من زاوية اجتماعية أو اقتصادية، بل من منظور نفسي وإنساني بالدرجة الأولى. فبناء أسرة سليمة يتطلب أكثر من رغبة أو تقليد اجتماعي متوارث، إنه يتطلب نضجاً عاطفياً حقيقياً وتحضيراً واعيا لكل مرحلة".
الأولاد.. من زينة الحياة
الى التعاسة الابدية!
وتشدد على ان "النضج العاطفي قبل الزواج هو حجر الأساس لأي علاقة صحية. فالزواج ليس مجرد مشاركة حياتية، بل هو التزام عاطفي ونفسي طويل الأمد، يحتاج إلى قدرة على الحوار، احترام الآخر، التعامل مع الخلافات بشكل بنّاء، وتحمل المسؤولية المشتركة. لذلك، فقدان هذا النضج يحوّل العلاقة إلى ساحة صراعات غير معلنة، ما ينعكس سلباً على جميع أفراد الأسرة لاحقا".
على الطرفين مراعاة أوضاعهم المعيشية
وتضيف "أما الإنجاب فهو مسؤولية عميقة تتعدى فكرة الامتداد الطبيعي للعائلة او رفع اسمها. الطفل ليس مشروعاً اجتماعياً أو وسيلة لملء الفراغ العاطفي، بل هو كائن يحتاج إلى بيئة مستقرة، رعاية نفسية وأمان عاطفي. وللأسف، إن غياب التحضير الواعي للإنجاب، خصوصاً في ظل أوضاع مادية صعبة أو ظروف نفسية غير مستقرة، قد يؤدي إلى تحميل الطفل أعباء لا ذنب له بها، اذ انه من غير المعقول في عائلة محدودة الدخل او تعاني من ضائقة مادية خانقة، ان تنجب 6 اطفال مثلا".
وتشير الى انه "في كثير من الأحيان، ومع تفاقم الضغوط المالية، نجد عائلات تنجب عدداً كبيراً من الأولاد دون توفير أدنى مقومات العناية. وهذا لا يشكل فقط مشكلة مادّية، بل يخلق بيئة محفوفة بالتوتر والإهمال العاطفي".
وتقول : "في حالات كثيرة، ينتهي الأمر ببعض الأطفال إلى مؤسسات الرعاية، حيث يواجهون صدمات الانفصال وفقدان الحنان الأسري، مما يترك آثاراً نفسية طويلة الأمد قد ترافقهم مدى الحياة. من هنا، تأتي أهمية الوعي الجماعي بأن الإنجاب قرار مسؤول، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الاستعداد العاطفي، القدرة النفسية والاستقرار المادي النسبي".
وتؤكد ان "الزواج والإنجاب ليسا غاية بحد ذاتهما، بل رحلة تتطلب تهيئة نفسية جدية لضمان أن يكبر الأطفال في بيئة داعمة وآمنة. لذا، لا يمكن الحديث عن أهمية النضج والمسؤولية، دون التطرق إلى العلاقات الجنسية قبل الزواج. وفي مجتمعاتنا، قد تحدث علاقات حميمية خارج إطار الزواج، وفي بعض الحالات قد ينتج منها حمل غير مخطط له. وهنا تبرز أهمية الوعي الصادق وتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية تجاه هذه النتائج. فالطفل، مهما كانت ظروف حمله، يحتاج إلى رعاية وحب واستقرار عاطفي. عدم تحمل المسؤولية قد يؤدي إلى التخلي عن الطفل أو تركه في مؤسسات رعائية، مما يعمق جراحه النفسية ويحرمه من بيئة طبيعية للنمو".
وعي الكبار حماية للأجيال
وتضيف "لذلك، تزداد الحاجة إلى نشر ثقافة التحضير النفسي والعاطفي، قبل اتخاذ أي قرار مصيري، سواء كان زواجاً أو ارتباطاً جنسياً بين اي اثنين. اذ ان الهدف من الوعي ليس كبح الغرائز الطبيعية، بل توجيهها ضمن إطار مسؤول يحترم الفرد، ويحمي الذرية القادمة من الوقوع في فخ الإهمال العاطفي والاجتماعي".
وتختم يونس حديثها: "لا بد من التأكيد أن حماية الصغار تبدأ من وعي الراشدين. حين يلتزم الأهل بتحقيق النضج الشخصي والتحضير العميق لبناء أسرة، يساهمون في خلق سلالات أكثر صحة نفسية، وأكثر قدرة على المساهمة بإيجابية في مجتمعاتهم".
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
21:39
البرازيل: دول "بريكس" تؤكد أنها ضد التهجير القسري للفلسطينيين وتشدد على أنّ الجماعات الإرهابية في سوريا تهدد الدول المجاورة
-
21:06
وزير الخارجية الجزائري لعراقتشي: نعرب عن بالغ قلقنا من استمرار تقويض الأمن في المنطقة من جانب الكيان الإسرائيلي
-
21:06
وزير الخارجية الجزائري لعراقتشي: ندين بشدة مجازر "إسرائيل" ضد المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة
-
21:06
وزير الخارجية الجزائري لعراقتشي: نؤكد أهمية تعزيز التعاون بين الجزائر وإيران في المنظمات الدولية وعلى مستوى منظمة التعاون الإسلامي لدعم حقوق الشعب الفلسطيني
-
21:05
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي في اتصال هاتفي مع نظيره الجزائري أحمد عطاف: ندعو إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول الإسلامية لوقف عمليات القتل الإسرائيلية في غزة ومنع تنفيذ مؤامرة التهجير القسري للفلسطينيين
-
21:05
عراقتشي في اتصال هاتفي مع نظيره الجزائري: نقدّر الموقف المبدئي للجزائر حول الملف النووي الإيراني في جلسة مجلس الأمن الأخيرة
