الخنوع كلمةٌ تعني الخضوعَ وتقبُّلَ الذلِّ والعارِ والإهانة. وهي صفةُ الشَّخصِ الذي يعيشُ في العبوديةِ ذليلاً، مستسلماً ومتسكعاً. "وما أكثرَ العيشَ في الذلِّ حولنا"! بهذه العبارةِ اختصرَ سعاده روحيةَ الخنوعِ المنتشرةَ في حياتِنا، والتي ما تزالُ عالقةً بنفوسِ كثيرين، وَهْيَ ظاهرةٌ نفسيةٌ مريضةٌ تمثّلُ عيشَ جماعةٍ منهزمةٍ، مستسلمةٍ، ومقتنعةٍ بأن حالَها الراهنةَ لا يمكنُ تغييرُها، لذلك فهي ترفضُ صراعَ العزِّ وتأخذُ بالعيشِ الذليلِ لأنها تربّت في الذلِّ والعبودية، وتعوّدت على الخمولِ والكسلِ والاتكالِ على الباطل!
لكن سعاده لا يرى هذه الحالة قدرًا مقدّرًا، بل نتيجةً لتراكم طويل من الاستلاب والقهر السياسي والديني والاجتماعي، أدّى إلى إنتاج عقلية ترى في الخضوع أمانًا، وفي الثورة تهورًا. وهو يعبّر عن هذا بقوله إن النفسية العامة أصبحت "نفسيةَ خوفٍ وجبنٍ وتهيّبٍ وتهرّبٍ وترجرجٍ في الـمناقبِ والأخلاق" ، وإن "أكبر نكبةٍ أُصيبت بها الأمة" لم تكن الاحتلالات بحد ذاتها، بل انحدار النفسية القومية إلى القبول بالهوان والتعايش مع الانحطاط.
عندما قررَ سعاده إنقاذَ الأمة، وجدَ نفسَهُ مُحاطاً بظروفٍ سياسيةٍ وروحيةٍ متولدةَ من الحوادثِ التاريخيةِ القاسيةِ التي مرَّتْ بها أمتُنا خلالَ عصورِ الإقطاعِ والاستعمارِ والاضطهادِ الطويلة. تلك الظروفُ تمثّلت بانحطاطٍ في المناقبِ عَزَّ نظيرُهُ، وتجلَّتْ بمظاهِرَ عديدةٍ أهمُها النفاقُ والفسادُ الأخلاقيُّ والوصوليةُ والانتهازيةُ والاتكاليةُ والاستزلامُ وفِقدانُ الثقةِ بالنفسِ وبقوى الأمة وإمكانياتها.
ويحذّر سعاده من هذا الانحدار الروحي- النفسي، لأنه يُضعف المناعة الاجتماعية، ويفتح الباب لقبول الذلّ كواقع لا مهرب منه. في كثير من مقالاته يشير إلى أن فقدان الثقة بالنفس هو مرض فكري واجتماعي يجب اجتثاثه لا التكيف معه وأن القبول بالهوان نوع من الاستسلام الأخلاقي. وبرأي سعاده، إن السبيل الوحيد لإستعادة الثقة بالنفس هو في إحداث انقلاب في الفكر والمناقب والروح وفي بناء وعي قومي جديد قائم على الإيمان بالذات وبقضية الأمة. هذا الوعي الجديد يعني فيما يعنيه "وعينا لمصالحنا وحقوقنا في الحياة كشعب حر يأبى الذل والعبودية وليس يأباها فقط بل يحاربها.."
منذُ انكشافِ أمرِ الحزبِ السوريِّ القوميِّ الذي تجرأَ سعاده على تأسيسِهِ في زمنِ القهرِ والكبتِ والصعاب، زمنٌ سادت فيهِ القوانينُ القمعيةُ المخيفةُ ومُنعتِ الأحزابُ والتجمعاتُ وانتشرتِ الجاسوسيةُ، منذُ ذلك الوقت، "ابتدأتِ الثورةُ الروحيةُ العمليةُ على الخوفِ والوجل والتهربِ" وعلى حالةِ الخنوعِ والانهزامِ التي كان يتخبطُ فيها شعبُنا، وبدأتِ الحربُ بين قوتين: الأولى تمثلُ المناقبَ الجديرةَ بحياةٍ جديدة، ساميةِ الروحية. والثانيةُ تمثلُ روحيةَ الخنوعِ العتيقةَ ومثالبَها والعقليةَ المستعبَدة. ويقول سعاده في هذا الصدد:
"الحزب القومي الاجتماعي قد أعلن منذ بدء وجوده صراعاً في ناحية خطيرة، صراعاً بين إدراك الوجود وغاية الوجود وبين الغفلة والاستسلام للقضاء والقدر، صراع بين العودة إلى الذات، إلى الإيمان بالذات وإلى الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وبين انعدام الشعور بالذات وانعدام الثقة بالنفس بين النهوض بثقة بالنفس وبين الخمول والكسل والاتكال".
إن الخنوع ليس طبيعة في النفس السورية، بل هو مرض أدخل قسراً عبر قرون من القهر والاستعباد والاستغلال السياسي والاقتصادي. لقد رأى سعاده أن العبودية الطويلة تولّد نفسية راضخة، تخشى التغيير وتهاب المواجهة، وتعتبر الاستسلام ضرورة للبقاء. وقد عبّر عن ذلك بقوله: "هذه هي الحالة السياسية المشؤومة التي نتج عنها الانحطاط المعنوي في النفسية السورية الظاهر في أقوال كهذه: نحن أمة ضعيفة لا قبل لنا بأمر كبير كالاستقلال..." هذا ما جعله يرى أن أخطر ما أصاب الأمة هو انحدار نفسيتها العامة إلى حالة من التردد والخوف والجبن، بحيث أصبحت غير قادرة على اتخاذ موقف جريء في مواجهة التحديات. وهو يرى أن الثورة النفسية هي البداية الحقيقية لكل نهضة لأنها تُبدّل نظرة الإنسان إلى نفسه، وتمنحه ثقة بأنه ليس عبداً للظروف.
يربط سعاده بين الروح الفردية الأنانية والذل الجماعي، حيث تتكوّن لدى الأفراد الخاضعين عقلية مصلحية تجنح إلى الاستجداء والمداهنة والاستزلام بدلًا من البطولة والنضال. ومن هنا، يمكن فهم قوله: "لسنا ضعفاء إلا إذا أردنا أن نكون ضعفاء، إذا سلّمنا بالأمور المفعولة وللأحداث التي تُفرض علينا، وقبلنا بالانحطاط الأخلاقي والمعنوي والمادي الذي لا مناص منه ما دمنا مستسلمين".
روحيةُ الخنوعِ تقبعُ في النفوسِ الذليلةِ المنهزمة، وغايتُها تحقيقُ المنافعِ الشخصية. فهذه الروحيةُ لا تجابهُ أمراً يتطلبُ عزيمةً صادقةً لأنها تربّتْ على الخوفِ والاستكانةِ والاستسلام، وعلى قبولِ كلِ أمرٍ واقعٍ والتكيُّفِ مع كلِ حالة. إنها روحيةٌ توفيقيةٌ مُدّمنةٌ على الخمولِ والتسكعِ والاستجداءِ والتملّقِ والمديحِ والكذبِ والمُراءاةِ والتهرّبِ من المسؤوليات. أما المناقبُ الجديدةُ فتحمِلُها نفوسٌ عظيمةٌ وقويةُ المعنويةِ لا تأبهُ للصعاب، نفوسٌ صادقةٌ وطافحةٌ بمشاعرِ العزِ والكرامةِ والحريةِ والجمال، نفوسٌ مستعدةٌ دائماً للبذلِ والعطاء، فلا تكلُ ولا تني ولا تقبلُ حلاً وسطاً لأنها تعملُ دائماً لتنفيذ إرادتِها ولتحقيقِ مطامِحِها السامية.
وقد شدّد سعاده على أن هذه المناقب لا تُبنى إلا بقيادة جديدة تؤمن بالتحرر من الداخل قبل الخارج. القيادة التي لا تستخدم الناس لأجل مصالحها، بل تحرّرهم من عقدة التبعية. القيادة الفاسدة، في نظره، هي التي ترعى الخنوع وتُبقي الناس في حالة "انتظار" دائم، أما القيادة الحرّة فهي التي توقظ إرادتهم وتمكّنهم من المبادرة.
ما يساهم في ثقافة الخنوع هو الحكام والقيادات السياسية الفاسدة التي تعمل دائماً على تعزيز الاستزلام والخضوع خدمة لمصالحها والحفاظ على امتيازاتها. أما القيادة الحقيقية الحرّة والمسؤولة فتشجع التفكير المستقل والمبادرة ومواجهة الظلم والهوان والعمل من أجل الأفضل والأنفع للمجتمع. سعاده كان نموذجا للقيادة الحرّة التي تمتشق سيف الحق والمناقب الجديدة في مواجهة المفاسد والرذائل والأباطيل. بقيادته الفريدة وقدوته الجريئة سعى منذ تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى تقويم الاعوجاج وتحطيم الخوف في النفوس، وتحفيز الشباب على تبنّي قيم الشجاعة والإقدام ومواجهة الصعوبات لقيامة المجتمع وتحقيق الغايات السامية. كان تركيزه الدائم على ترسيخ المناقب الجميلة كفلسفة حياة وتوجيه قوى الحياة نحو الأفضل وبناء النفوس الصحيحة التي "تطلب دائماً الأسمى مهما يكن من أمر الصعوبات الحائلة دون بلوغه".
الخاتمة: لا خيار سوى المواجهة
في مواجهة روح الخنوع والاستسلام التي عززتها الأخلاق الرجعية السائدة، أخلاق القيادات الفاسدة في شعبنا التي ساهمت في تربية النفوس الضعيفة الذليلة التي تهرب من المسؤوليات و"ترتد عن الأمور العالية الصعبة" ، كان موقف سعاده واضحًا منذ البداية: إما العزّ أو الفناء. فمنذ تأسيس الحزب وضع سعاده أساسًا مناقبيًّا جديدًا للأمة وسعى إلى تحطيم الخوف وزرع الثقة في النفوس وتحفيز الشباب على تبنّي قيم الشجاعة والبطولة والإقدام، مؤكداً أن الأمم الحية لا يمكن لها أن تستكين للذل، بل عليها أن تبني مناقب جديدة ترتكز على الشجاعة، والإيمان بالحق، والاستعداد للتضحية. وقال: "إن الحياة كلها وقفة عزّ فقط!"
الخلاص من الذل يبدأ من الثورة الروحية أولًا، ومن الجرأة على المواجهة، حتى يصبح الإنسان فاعلًا في تقرير مصيره لا تابعًا للباطل والاستسلام. هذه الثورة الروحية بدأها الحزب القومي، كما أشرنا أعلاه، منذ بداية وجوده معلناً الانتصار، بفضل تعاليمه الجديدة، على الاتكالية والخنوع والاستسلام. ويؤكد سعاده: "إننا جماعة وعت نفسها وأدركت أنه يمكنها أن تخطط للعز والكرامة، هذا ما يعيه وجود الحزب السوري القومي الاجتماعي. هو ثورة ضد الاتكالية والاستعباد والاستعمار تحت أي ستار، هو نداء إلى الشعب السوري أن يعي نفسه ومقدرته..."
يتم قراءة الآن
-
إنتخابات الشمال اليوم : طرابلس مخلوطة الولاءات... ومعارك الإتحادات بين الأحزاب المسيحية العدوان «الإسرائيلي» يُظلّل زيارة أورتاغوس...ومسؤول أميركي باللجنة يُلاحظ تقدّماً الحكومة لتطبيق نموذج ميقاتي للرواتب؟والإتحاد العمّالي يُلوّح بالتصعيد
-
سوريا بين "تركيا الكبرى" و"اسرائيل الكبرى"
-
حزب الله يسوده القلق من أداء الحكومة تجاه صدّ العدوان "الإسرائيلي" جشي لـ "الديار": لجنة الإشراف مُتواطئة... ومُعالجة الدولة خجولة
-
التفاصيل الكاملة لحادثة الطيران الشراعي في جونية
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
00:14
تم تأكيد خبر إصابة الزميلة ندى اندراوس في قناة "أل بي سي" واصابتها في فخذها الايسر سطحية وهي تتماثل للشفاء.
-
23:58
فوز لائحة وحدة حلبا برئاسة عبد الحميد الحلبي بكامل أعضائها.
-
23:58
انتخابات بلدة مجدليا: لائحة المردة والتيار تنال 5 مقاعد مقابل 4 مقاعد للائحة القوات ومعوض.
-
23:58
فوز اللائحة المدعومة من المردة والتيار على لائحة معوض والقوات في بلدة كفرصغاب - زغرتا.
-
23:42
فوز اللائحة المدعومة من التيار الوطني الحر في بلدة رحبة العكارية بكامل أعضائها، وفوز لائحة قرار عبدين في بشري بمواجهة اللائحة المدعومة من القوات اللبنانية.
-
23:42
فوز لائحة مرسيلينو الحرك بكامل أعضائها في مدينة البترون، والجيش يلقي القبض على سارق أحد صناديق الاقتراع في بلدة مشمش العكارية.
