اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في قلب العاصمة بيروت، لم تعد الأرصفة للمشاة، بل تحوّلت إلى ما يشبه "العقارات الخاصة"، تُحتلّ بوقاحة أمام أعين الدولة، وتُستثمر لمصالح خاصة دون حسيب أو رقيب. أرصفة تُصادر لمصلحة مطاعم وملاهٍ ليلية، تتوسّع على حساب المواطن البسيط، بينما تتراكم فوقها بسطات الخضر في الحمرا، وتتكدّس السيارات المعروضة للبيع في الكرنتينا. مشهدٌ يعكس فوضى عارمة، وكأن المدينة قُسّمت حصصاً تُدار وفق منطق النفوذ لا القانون.

اللافت أنّ هذه المخالفات لا تحدث في الخفاء، بل تُرتكب على مرأى ومسمع من عناصر البلديات والقوى الأمنية وبشكل خاص افراد شرطة السير، وكأن هناك غطاءً سياسياً يحمي المتجاوزين. فهل الأرصفة حكر على أصحاب النفوذ؟ وهل يجوز أن يُحرم المواطن لا سيما كبار السن، وأصحاب الإعاقة، والأمهات بعربات أطفالهن من حقّ بسيط في التنقّل الآمن؟

على المحك: استحقاق جديد في وجه التعديات القديمة!

في جميع الأحوال، هذه التجاوزات ليست جديدة، بل تفاقمت مع الزمن، في ظلّ بلديات غائبة أو عاجزة أو متواطئة. واليوم، قبيل انتخاب مجلس بلدي جديد في بيروت، يُفتح هذا الملف مجدداً: فهل تتمكّن البلدية الجديدة من إصلاح ما أفسدته سابقتها؟ وهل تستعيد بيروت هيبتها عبر استعادة أرصفتها؟ أم ستبقى الأرصفة شاهدة على انهيار مفهوم الملك العام في جمهورية الاستثناءات؟

ما بين الحق المشترك والامتياز الخاص "طارت الموارد العامة"!

من المؤكد انه حين تُصبح المماشي "ممتلكات خاصة" تُعرض عليها البضائع وتُركن فوقها السيارات وتُسلكها الدراجات النارية، يفقد الفضاء العام وظيفته الأولى كحق مشترك، ويتحوّل إلى امتياز لأصحاب النفوذ. هذا المشهد ليس بجديد على العاصمة بيروت، لكنه يتفاقم يوماً بعد يوم، ويتحوّل إلى ظاهرة "مأسسة التعدي"، حيث تُصادر الأرصفة والطرقات من دون حسيب أو رقيب، ويُترك المواطن للمخاطرة بسلامته على حساب مصالح أصحاب المحلات أو شركات الفاليه أو حتى بعض السياسيين المحسوبين على مراكز النفوذ.

جوانب الطرقات "مصادرة"!

في توثيق ميداني لـ "الديار"، برزت مشاهد صارخة من منطقة الجمّيزة حيث استولت المطاعم والملاهي الليلية على الأرصفة بشكل شبه كلي، وحوّلتها إلى امتداد تجاري خاص. الحال لا يختلف كثيراً على خط الكرنتينا، حيث استُخدمت الأرصفة لعرض سيارات للبيع أو لتفادي دفع بدل مواقف مخصصة لصف المركبات. الظاهرة نفسها تتكرّر في الحمرا، حيث حوّل أحد بائعي الخضر الرصيف إلى مساحة عرض لبضاعته، ما حرم المارة من حق المشي الآمن، ودفعهم إلى المخاطرة بالسير في وسط الطريق، معرضين حياتهم لخطر الهرس.

المريب في القضية أن هذا البائع يُقال إنه محسوب على شخصية سياسية نافذة، ما يفتح الباب لتساؤلات أكبر عن الحماية السياسية لمصادرة الملك العام، وعن "التواطؤ الناعم" بين أصحاب المصالح والجهات الرسمية، ولا سيما أن هذه المخالفات تحصل على مرأى من شرطة البلدية وقوى الأمن، من دون تدخل يُذكر.

الدراجات النارية والتكاتك... "أولوية" على حساب الأرواح؟

من جهة أخرى، ليست الأرصفة وحدها في بيروت التي أُخرجت عن وظيفتها الأساسية. فمع تفاقم زحمة السير، لجأ كثير من سائقي الدراجات النارية إلى قيادتها فوق الأرصفة هرباً من الازدحام او لتنفيذ عمليات النشل، في مشهد متكرر حتى في فترات حظرها، كما ورد في تعميمات وزارة الداخلية ومحافظ بيروت مؤخراً. ورغم وجود قرارات تمنع هذا الاستخدام المخالف، فإن الممارسة مستمرة أمام أعين شرطة السير، ما يطرح علامات استفهام حول فاعلية هذه القرارات ومدى احترامها.

الآمال على التغيير!

الى جانب ما تقدم، تأتي كل هذه التعديات في ظل غياب مجلس بلدية بيروت، الذي يُعتبر حالياً محلولًا، ما يجعل الأنظار متجهة نحو المجلس البلدي المنتظر وما إذا كان قادراً على معالجة هذا التراكم من المخالفات، والضرب بيد القانون لاستعادة الفضاء العام من أيدي المتعدّين عليه. فهل نشهد أخيراً تصحيحاً لهذا الانحدار المزمن؟ أم تستمر الأرصفة في كونها عنواناً للفوضى المشرعنة، ومساحة لا تحكمها القوانين بل توازنات النفوذ؟

البنية التحتية "متهلهلة" فهل من منقذ؟

في سياق بلدي انتخابي متصل، تقول المرشحة امال شريف على لائحة "ائتلاف بيروت مدينتي"، لـ "الديار": "قررت خوض الاستحقاق البلدي بدافع تحسين واقع الخدمات في العاصمة، انطلاقًا من تجربة شخصية يومية تعكس حجم الإهمال في البنية التحتية. فأنا أستخدم كرسياً متحركاً نتيجة إصابتي بشلل الأطفال، وسأنكب على تطوير وتحسين الخدمات في بيروت. اذ ان هناك تراجعاً كبيراً في نوعية الخدمات، ولن أستهدف فقط ذوي الإعاقات، بل كل فئات المجتمع، من كبار السن إلى الأمهات اللواتي يستخدمن عربات الأطفال. وتشير الى ان المشي في بيروت بات مرهقاً وخطراً، وغالبا ما أضطر إلى السير على الطرقات بدل الأرصفة بسبب التعديات والعوائق، ناهيكم  بالارتفاع غير المنطقي للأرصفة".

وتضيف: "مشروعي الأساسي سيكون تركيزاً على تنمية الأحياء بطريقة مستدامة، وتحديد معايير ثابتة للأرصفة، وإزالتها من أيدي من صادرها، وإعادتها للناس. سأعمل على تشجير بيروت وتخفيض التلوث. فضلا عن ان كل مشروع بلدي يجب أن يكون شمولياً، يراعي كل أفراد المجتمع، لا سيما الفئات المهمشة والمنسية".

وتعتبر شريف أن العمل البلدي يجب أن ينطلق من حاجة الناس اليومية لا من السياسة، مشيرة إلى أن زيادة عدد المرشحين من ذوي الإعاقة هذا العام يشكل فرصة لإعادة بناء مدن وقرى دامجة".

محاضر الضبط لا تردع المخرّبين!

في الشقّ القانوني، يوضح عضو بلدي حالي في بلدية بيروت لـ "الديار"، "ان ما يعيق حركة ذوي الإعاقة وكبار السن والعائلات في بيروت، ليس فقط الإهمال في البنية التحتية، بل أيضاً المخالفات الصارخة التي تُرتكب يومياً على الأرصفة. فالقانون اللبناني واضح في هذا الشأن: الأرصفة تُعدّ من الأملاك العامة، وهي مخصصة حصرياً للمشاة، وأي تعدٍّ عليها، سواء من خلال احتلالها ببسطات أو مولدات أو حتى بوابات خاصة، يُعتبر مخالفة صريحة لقانون الأملاك العمومية، ويُعاقب عليها قانون العقوبات. أما سير الدراجات النارية على الأرصفة، وهو مشهد بات مألوفاً في أحياء كثيرة، فيُعدّ انتهاكاً واضحاً لقانون السير، ويشكّل خطراً مباشراً على سلامة الناس، لا سيما ذوي الإعاقات الحركية".

ويشير الى انه "لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ إن ركن السيارات على الأرصفة أيضاً يُعدّ مخالفة تستوجب ضبطاَ وغرامة، وفق ما نصّت عليه المادة 18 من قانون السير، التي تمنع استخدام الأرصفة كمواقف عشوائية حتى أمام المنازل. ومع ذلك، يستمر البعض في انتهاز هذه المساحات لأغراض شخصية أو تجارية، إما بدافع الإهمال أو نتيجة الحماية السياسية التي توفر غطاءً لهؤلاء، ما يكرّس منطق الإفلات من العقاب. هنا، تغيب هيبة القانون، ويُطعن في مبدأ المساواة أمامه، المنصوص عليه بوضوح في المادة 7 من الدستور. لذا، فإن المطالبة بإعادة الأرصفة إلى الناس ليست فقط حقاً مشروعاً، بل هي معركة قانونية بوجه الاستقواء، وشرط أساسي نحو بناء مدينة دامجة تحترم كرامة الجميع دون استثناء".

التداعيات النفسية والاجتماعية

من جانب أخر، فان الأثر النفسي والاجتماعي لهذا الواقع لا يقل خطورة عن المخالفة نفسها، إذ يشعر المواطن بالغبن، وبأن حقوقه كإنسان يسير على قدمَيه تُنتزع منه لمصلحة من يملك سلطة أو محسوبية. تسلب الأرصفة من الأطفال، من الأمهات، من كبار السن، ومن ذوي الإعاقة، وتُحوّل إلى فضاء خاص لأرباح شخصية أو لراحة أصحاب النفوذ. يولّد هذا الانتهاك المتواصل شعوراً بالعجز، ويعزز فقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها، ويعمّق الفجوة بين المواطن والسلطة.

في الخلاصة، نفتح اليوم هذه القضية المزمنة لأن هذه التعدّيات ليست وليدة الساعة، بل مضى عليها سنوات طويلة، دون حلّ أو ردع، بل على العكس، تتكاثر يوماً بعد يوم وتزداد وكأنها أمر واقع لا يمكن المساس به. والمؤسف أن هذه المخالفات تُرتكب في وضح النهار، أمام أعين عناصر البلدية، وأحيانا بتواطؤ أو تغطية من داخلها، كما هو الحال في مناطق مكتظة وحيوية مثل الحمرا، الجميزة، مار مخايل، النهر، وبرج حمود، التي تشهد كثافة سكانية عالية وزحمة سير خانقة على مدار الأسبوع.

من هنا، نطرح هذا الملف أمام المجالس البلدية المنتخبة حديثًا، سواء كانوا وجوهاً جديدة أو أعضاء قدامى أعيد انتخابهم. فلعلّ في يدهم اليوم فرصة حقيقية لتصحيح هذا المسار، واستعادة ما سُلب من الناس بهدوء، وباسم القانون. فالأرصفة ليست تفصيلًا، بل مرآة حضارية، وحق أساسي لا يُجزأ.

الأكثر قراءة

متى المفاوضات بين أميركا وحزب الله؟