في مدنٍ تتدثّر بتاريخها لكنّها ترتجف أمام مرآتها، يظل الفنّ يُجرّ كالمجرم إلى ساحات التفتيش العقائدي، بينما يُعامل المسرح كقنبلة صوتية تهدّد طمأنينة الركود. بحيث كلّما صعدت جملةٌ جريئة الى الخشبة، أُشهرت في وجهها السكاكين، لا لتصحيح مسار، بل لردم شقّ صغيرٍ في جدار الصمت.
على المستوى الفني، لا تزال الكوميديا تُعتبر تهديدا، والموسيقى كلغم تحت بساط الطاعة، في حين يُستقبل العرض المسرحي كعدو يجب كبحه. ليس لأن ما يُقال على الخشبة خطر فعلي، بل لأن جرأة التعبير تكشف عورة الردود، وتنهار الهيمنة المطولة على المقدّس الذي يرفض الحوار او الجوار.
لكن على العكس من ذلك، فإن السؤال الجدلي الأكثر تداولا خلف الأبواب هو التالي: لماذا كلّما حاول الفنّ أن يتسلّل من بين الركام، خرجت جحافل التخوين حاملة رايات الأخلاق المهدّدة؟ من الذي درّب الناس على أن الضحكة طعنٌ في الذات الإلهية؟ وأن الرقص رجسٌ من عمل النقد؟ ومتى صار اختلاف الرأي سبباً كافياً لمحاكمة الميكروفون والنوتة والصوت الصاعد من مدينة تحاول أن تتنفس؟
في جميع الأحوال، بصرف النظر عن الاقاويل فإن المشكلة في طرابلس، كما في مدن كثيرة، ليست العرض المسرحي، بل الجرأة الكامنة فيه، القدرة على قلب الطاولة، وعلى قول ما لا يُقال. وبذلك، تصبح العقبة الحقيقية هي الأمل الذي يتسرّب من ثقوب الخشبة ويضيء زوايا الخوف. لهذا يُمنع الخطاب الفكري، يُحاصر، ويُستعدى عليه تحت شعار حماية الفضائل، وكأنّ القيم هشّة إلى حدّ أن تنهار أمام ارتجالٍ فنّي.
لكن مهلاً، هذا ليس احتجاجا على مشهد، بل إعلان حالة طوارئ ضد أي وعيٍ لا يرتدي الزيّ الرسمي للطائفة، ولا يسير بانضباط خلف عربة "اللي تعوّدنا عليه". أما من تجرّأوا على فتح النوافذ، فقد وُضعوا في قفص الاتهام: نواياهم مشبوهة، ومحبّتهم للمدينة تُقرأ على أنها غزو ثقافي، لا شغف بالانتماء.
نحن لا نعيش زمن الحرب على الفكرة فقط، بل زمن قتل النية. فكل من يقترب من الحكاية، ومن يعيد للمدينة نبضها، يُقصى. ومن يطرح سؤالًا، يُسحق تحت مطرقة الجواب الجاهز: "أنت تهيننا."
استنادا الى ما سبق، يبقى التساؤل المشروع: من يُهين من؟ أهو الفن الذي يحاول إنقاذ الذاكرة من الصدأ؟ أم الذين اختاروا أن يعيشوا داخل صدى صراخهم، وأن يكرهوا كل ما لا يستطيعون فهمه؟
المساحة تحولت الى مسرح محتدم!
ولتوضيح ما جرى في تلك الليلة، يقول العضو المؤسس والمدير الفني لمؤسسة "رمّان" محمد تنير لـ "الديار": "بدأنا عملنا في الميناء عام 2021، وانطلقت فكرتنا الأساسية من الإيمان بأهمية دعم لامركزية الثقافة والفنون. وبناء على ذلك، لدينا مساحة ثقافية إبداعية تحمل اسم "ستيريو كواليس"، نركّز من خلالها بشكل رئيسي على الموسيقى والبرمجة الموسيقية، غير أن هذه المساحة تبقى مفتوحة لاستضافة عروض فنية متنوعة، سواء أكانت اداءات مسرحية أو لوحات راقصة أو أي شكل آخر من الفنون".
الظلام بدلا من التنوير!
ويتابع: "منذ نحو ثلاث سنوات ونحن نعمل في هذا المجال، انطلاقا من قناعة راسخة بضرورة أن تسهم جهودنا في كسر مركزية الفنون والثقافة، بحيث لا تبقى حكرا على العاصمة. كما نحرص على دعم الموسيقيين والموسيقى البديلة في لبنان. ما يميزنا أننا لا نطرح هذه المساحة كإطار ترفيهي فقط، بل نعتبرها مساحة ذات أبعاد اجتماعية أيضا، إذ نسعى من خلال أنشطتنا إلى استضافة فنانين من خارج طرابلس والميناء، ليزوروا المدينة ويتعرفوا إليها وإلى أهلها عن قرب".
المخزون المعرفي مقابل التزمت!
ويؤكد "لم نشهد أي مشكلات طيلة الفترة الماضية ، لا مع المجتمع ولا مع أي فرد، لأننا نعتبر أنفسنا جزءا أصيلا من هذا النسيج الاجتماعي، وعلاقتنا ممتازة مع أهالي الحي الذي نتواجد فيه. من هنا، نسعى إلى ابتكار أنشطة تساهم في تحفيز الحركة الاقتصادية المحلية، معتمدين في ذلك على حماسة الفنانين والجمهور الذين يأتون من خارج طرابلس، ما يدفعهم إلى زيارة المطاعم والمرافق المهمة في المدينة. كذلك ننظم مهرجانا موسيقيا سنويا، يشكّل منصة تساهم في تقديم صورة إيجابية عن المدينة وأهلها".
وعن الحادثة التي وقعت يوم السبت الفائت، يكشف أن "فرقة awkwordcomedy رغبت في الاحتفال بمرور سبع سنوات على انطلاقتها، من خلال تنظيم سلسلة من العروض الكوميدية في مختلف المناطق اللبنانية، وكان من ضمنها مدينة طرابلس. وفي هذا السياق، تواصل معنا منظمو الحدث وعرضوا علينا الفكرة، وقد رحبنا بها، شرط أن تكون الجهة المنظمة حاصلة على التراخيص اللازمة. وهذا ما تم فعلاً، إذ نالوا موافقة الأمن العام، كما سبق لهم أن قدموا عروضا في مناطق عدة، علما أن العرض في صيدا قد أُلغي، لكننا لم نكن نتوقع أن يحصل أمر مماثل في طرابلس".
الهوية الفكرية عمود الحضارة... إنما!
ويضيف: "اتفقنا مع الجهة المنظمة منذ البداية على ألا يتضمن العرض الكوميدي أي محتوى يمسّ الأديان أو المعتقدات، لأننا نتحلى بالوعي الكامل ونحترم جميع أطياف المجتمع وتركيبته المتنوعة. من هذا المنطلق، لم يكن لدينا أي قلق من إقامة هذا العرض في مدينتنا، أولاً لأنه قانوني، وثانياً لان العرض كوميدي ساخر ومراعٍ للحدود المقبولة والمنطق السليم. فنحن كمساحة ثقافية وكأفراد وفريق، نؤمن بأهمية احترام الجميع، ونتعامل بإنسانية عالية ونُجلّ كل شخص، ونحترم إيمانه ومعتقداته، بغض النظر عن خلفيته أو بيئته".
ويستكمل: "نحرص دائما على أن تكون مقاربتنا، سواء في التعامل مع الفنانين أو الجمهور أو حتى مع الجيران، قائمة على الاحترام والأدب والأخلاق. وأشدد على أننا لا نسعى أبدا إلى تقييد حريات الآخرين، أو المسّ بمعتقداتهم بأي شكل من الأشكال".
إيقاف العرض لفض الاحتشاد
ويشرح تنير: "للأسف، بدأت بعض المجموعات تروّج لفكرة أن هذا العرض يسيء إلى الإسلام والقيم الدينية، ما أدى إلى إطلاق دعوات وتحرّكات ضدنا من قبل أشخاص لا يملكون معلومات كافية عنا، او حول ما تتضمنه اعمالنا. لذا، أعتقد أنه تم نشر مغالطات وأضاليل بحقنا، ما تسبب بحالة من التجمهر في الحي، وانتهى بنا الأمر إلى اتخاذ قرار بإلغاء العرض الثاني، حرصا على سلامة الأفراد الحاضرين داخل المساحة، ممن جاؤوا لمتابعة العرض، إضافة إلى الحفاظ على أمن وسلامة سكان الحي، خاصة في ظل التوتر الكبير الذي شهده الشارع في ذلك الحين، وبالتالي لم نكن مستعدين لتحمّل مسؤولية إيذاء أي شخص، ولا حتى أن تُوجَّه "ضربة كف" واحدة لأي انسان".
ويتابع: "تمكّنا من نزع فتيل الاحتقان، وهنا لا بد من الإشادة بموقف أهالي الحارة الذين تحلّوا بضبط النفس، وتمكنوا من احتواء ما جرى وساندونا. ومن باب الموضوعية، أوجّه تحية إلى القوى الأمنية التي حضرت لحمايتنا، وحماية الجمهور والمساحة أيضا، وساهمت في تأمين خروج الجميع من دون أن يُصاب أحد بأي أذى".
ويشير في ختام حديثه إلى أنه "كان من الأجدر بالمتظاهرين التواصل المباشر معنا، والاستفسار عن حقيقة الامور، فجوهر رسالتنا لا يتعارض مع أي فرد أو معتقد. اذ ان معركتنا الحقيقية هي ضد الاحتلال والفساد والنهب، ونحن نسعى إلى المساهمة في بناء مجتمع يقوم على احترام الإنسان، ويقف على مسافة واحدة من الجميع. وبالرغم من كل ما حدث، نؤكد أن المسألة تم احتواؤها بنجاح".
يتم قراءة الآن
-
لبنان أمام خطر المصير
-
الضاحية تحت النار بتواطؤ اميركي: نتانياهو يريد الحرب؟ الجيش يفضح اكاذيب <اسرائيل>..كشف ميداني ولا سلاح عون: لبنان لن يرضخ أمام «صندوق بريد الدم»!
-
عتب في لقاء الـ45 دقيقة ... سلام يستحضر الهتافات... والحزب يردّ : النجمة لا العهد!
-
لهذه الأسباب يريد ترامب استبدال أورتاغوس.. فهل يخلفها رايبورن؟!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
19:11
إحصاء أولي للأضرار التي خلفتها الغارات "الاسرائيلية" على الضاحية الجنوبية: دُمرت 9 أبنية تدميرًا كليًا، وتضرر 71 مبنًى و50 سيارة و177 مؤسسة.
-
18:27
3 شهداء بقصف "إسرائيلي" لمنزل في جباليا البلد شمالي قطاع غزة، و34 شهيدا في غارات "إسرائيلية" على مناطق عدة في القطاع منذ فجر اليوم.
-
18:26
الخزانة الأميركية: فرضنا عقوبات مرتبطة بإيران على عدد من الأشخاص والكيانات.
-
18:25
سي إن إن عن مسؤولين "إسرائيليين": تسليح ميليشيا في غزة تم بتفويض من نتنياهو دون موافقة المجلس الوزاري الأمني المصغر
-
17:53
فايننشال تايمز عن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية: المواقع الإيرانية الأكثر حساسية موجودة على عمق نصف ميل تحت الأرض والوصول إليها معقد.
-
17:51
فايننشال تايمز عن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية: متفائل بإجراء الولايات المتحدة وإيران محادثات جدية، والقدرات النووية الإيرانية لا يمكن تدميرها بضربة واحدة.
