اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

كثيرة هي الأفكار والنظريات والآراء التي قيلت حول الترجمة الأدبية وأهميتها، فالكاتب البريطاني تيموثي هارولد باركس يقول: "إن على المترجِم أن يقوم بعمله ويختفي"، بينما قال جورج ستاينر "الترجمة ليست مجرد نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي إعادة خلق للعمل في لغة جديدة". فهل قامت يارا المصري بعملها واختفت أم أنها أعادت خلق النصّ الذي حصل كاتبه على  وسام فارس في الفنون والآداب من فرنسا عام 1989، وهو رواية "الذوّاقة" للكاتب الصيني لو وين فو!

مشكلة النصوص المترجمة، وخصوصًا تلك التي تصلنا عن اللغات غير الشائعة كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية...، كاليابانية والصينية والكورية...، تصلنا من خلال ترجماتها الإنكليزية أو الفرنسية، فتكون هوّة كبيرة بين النص الأصلي وما وصل إلى المتلقي العربي، ولكن مع يارا المصري، اختلف الأمر. فالنص وصلنا من لغته الأصلية، الصينية، وهنا مكمن القوة.

الرواية عن "الذوّاقة"، الواحد والجماعة، فالمصطلح يبدأ مع "تجو زي يي" الشاب المحبّ للطعام، و "الذوّاقة" فعلًا إذ لا يأكل إلا طعامًا بمواصفات معينة وبطقوس خاصة، وتنتهي الرواية معه عجوزًا يحاضر بفنّ الأكل والطبخ والتذوّق، ويروي لنا كل ذلك، وكل ما سيحصل بين شباب وكهولة "تجو زي يي" من تغيرات في النظام الصيني وفي المتجمع ككل، "غاو شياو تينغ". الأسماء يظنه المتلقي في البداية عائقًا لحركة السرد والفهم، ولكنها لا تكون كذلك، فهي ليست كثيرة في طبيعة الحال في الرواية، ولأنّ الترجمة كانت مدروسة لغتها سلسة فلم تجعل من الأمر عائقًا.

رواية الذواقة عن الطعام بالفعل، وعن الحال المتغيرة للطعام في الصين في مرحلة دقيقة من تاريخ تلك البلاد، ولعلّ "الذواقة" بوصفهم رموزًا، والطعام معهم رمز للنظام المتغيّر، بين الأفضل والسيّئ والأسوأ، وبين التغييرات التي تطرأ على المطعم الذي يديره غاو شياو تينغ بوصفه "الرفيق" غاو، ومع كل التغييرات في النظام السياسي والاجتماعي، يكون الطعام هو "البطل" بوصفه بطلًا إنسانيًّا، كما يرد في تقديم الرواية.

تجري أحداث الرواية مدة أربعين عامًا تقريبًا، من الحرب الأهلية الصينية مرورًا بالمجاعة الكبرى فالثورة الثقافية وما بعدها، ومهّدت لبداية عصر الإصلاح والتغيرات نحو الانفتاح، وكان بطلها الطعام والذوّاقة، فتجو زي يي، ومن معه من الذوّاقة، الذين على الرغم من كل المحظورات التي فُرِضت، وعلى الرغم من المجاعة وما رافقها، ظلّ يجد حلولًا، وليس البيت رقم 54 إلا رمزًا للحركات التي لا تهدأ ولا تقبل الواقع المفروض عندما يشيع، بصرف النظر عمن يملك الأحقية على الآخر، والطعام كان ممثلًّا ناجحًا للنظام السياسي الذي تبدّل كثيرًا حتى استقرّ فيما بعد على ما وصل إليه اليوم، والتمهيد الذي قامت به الرواية، بوصف الطعام الشهي وطقوسه والإسراف رمزًا للنظام القديم والرأسمالية، جاء مطعم غاو شياو تينغ رمزًا للرداءة والفوضى التي حلّت بعد وصول النظام الجديد، فكان لا بدّ من دمج بين الماضي والحاضر يضمن الحفاظ على ما حققه النظام الجديد، فجاءت شخصية "تجو" ولأنه لم يكن فاسدًا أو سيّئ الأخلاق والسمعة، بل كان محبًّا للطعام فقط، لتقود حملة التحوّل والدمج، من خلال محاضراته وما رافقها، ومن خلال حضوره المحبّب، ولعل "تجو" يرمز إلى الكثير لم تقله الرواية.

تحوّلات النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي كانت مقصدًا من مقاصد الرواية، ولكنها لم تكن همًّا لدى الكاتب بقدر ما كانت وسيلة استخدمها ليعبّر عن أفكاره بكلّ هدوء وكلّ تأنّ، وبشكل مقبول لا يواجه فيه طرفًا بشكل مباشر، ومن يعرف كيف سارت الصين في كل الإصلاحات في أنظمتها جميعًا، يعرف أن الرواية كانت من ضمن ذلك السياق الاجتماعي والسياسي السائد، بل إنها شاركت في تلك التحولات، من خلال رمزية الطعام و "الذوّاقة"، لأنهم، أي الذواقة، بذائقتهم وخبراتهم وذكائهم، هم بالفعل من قادوا البلاد، وهم بالفعل من عادوا وفُتِح لهم المجال للتغيير.

أعود إلى الترجمة، وما بدأت به مع المنظّرين لها، لأقول إنّ ما قدّمته المترجمة في هذه الرواية لهو خير دليل على أنّ الدخول في عوالم لغات صعبة أو غير شائعة، كالصينية على سبيل المثال هنا، لهو أمر ليس بالمستحيل، وإن على المثقف العربي، والباحث والدارس، أن يتوجّه إلى ما اتجهت إليه المصري، لتكون له بصمته الخاصة، وليؤدّي واجبه تجاه حركة الثقافة والأدب في بلادنا، التي تحتاج إلى مثقّفيها وإلى التخصص.

وأنهي أنّ لغة الرواية قوية وجذلة، حاولت جاهدة من خلالها المترجمة أن توصل النصّ بروحه قدر ما استطاعت، وقدمت النص بلغة جعلته بعيدًا عن التكلّف، قريبًا جدًّا من روح النصوص المكتوبة بلغتنا الأم. وهي بالفعل أعادت خلق العمل من جديد.

ترجمة يارا المصري 

الأكثر قراءة

إذا لم يُسلّم حزب الله سلاحه