يمتلك لبنان من الثروات، ما يجعله بلدا غنيا مكتفيا ذاتيا لولا غياب الإدارة الفعالة. وتعد الثروة الحيوانية واحدة من أبرز هذه الموارد، لما لها من دور أساسي في دعم الأمن الغذائي الوطني، وتوفير المنتجات الحيوانية من لحوم وألبان وبيض، فضلا عن مساهمتها في تنشيط الاقتصاد الريفي، وتوفير فرص عمل لآلاف العائلات.
إلا أن هذا القطاع، على الرغم من الإمكانات الكبيرة التي يختزنها، يعاني من إهمال مزمن وتحديات متفاقمة. فالأزمات المتلاحقة التي عصفت وتواصل العصف بالبلاد، من انهيار اقتصادي حاد وارتفاع أسعار الأعلاف والمستلزمات البيطرية، إلى تداعيات الحرب "الإسرائيلة" التي لم تتوقف فصولها إلى اليوم، والجفاف وتراجع الدعم الرسمي، كلّها عوامل اجتمعت وأدّت إلى تراجع كبير في أعداد الماشية، وانخفاض ملحوظ في الإنتاج، وخروج عدد كبير من المربين من السوق.
تشكل الثروة الحيوانية ركيزة أساسية في منظومة الأمن الغذائي في لبنان، إذ تعد من أهم مصادر توفير الغذاء للمواطنين، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة، وتساهم في دعم الإنتاج الزراعي بنحو 27% من مجمل الناتج المحلي الزراعي، ما يعكس دورها الحيوي في دورة الاقتصاد الزراعي. كما تؤمن الثروة الحيوانية حوالى 27% من مجمل الصادرات الزراعية، ما يجعلها عنصرا فاعلا في ميزان التجارة الزراعية، إضافة إلى تزويد العديد من الصناعات الغذائية والجلدية في لبنان بالمواد الأولية الأساسية، مثل الحليب واللحوم والجلود والصوف، ما يعزز الترابط بين القطاعات الإنتاجية المختلفة.
زيادة الدخل القومي والناتج المحلي
ولا يقتصر دور الثروة الحيوانية على المستوى الاقتصادي الكلي، بل يمتد أيضا إلى المساهمة في زيادة الدخل القومي والناتج المحلي الإجمالي، من خلال توفير فرص عمل لشرائح واسعة من المجتمع، لا سيما في المناطق الريفية، حيث تشير أرقام البنك الدولي إلى أن ما يقارب الـ 60% من الأسر الأكثر فقرا في منطقة الجنوب، كانت تعتمد على تربية الدواجن كمصدر أساسي أو رديف للدخل، وفي الكثير من الحالات، تمكنت أسر فقيرة من الانتقال إلى الطبقة الوسطى، بفعل التطور التدريجي في حجم المزارع التي تمتلكها.
كما تؤمن الثروة الحيوانية قسما مهما من حاجات الاستهلاك المحلي من الحليب والدجاج واللحوم، ما يخفف من الاعتماد على الاستيراد، ويعزز الاكتفاء الذاتي النسبي رغم التحديات. وفي واقع الأمر، كان هذا النوع من الأنشطة يسهم في تأمين الحد الأدنى من المستلزمات الغذائية للأسر نفسها، قبل أن يكون مصدرا للدخل المالي...
يشار إلى أن تربية الابقار المحلية تشكل حوالي 30% من حاجات السوق المحلي، بينما الابقار المستوردة تغطي حوالي 70 % من الحاجات، ويستورد لبنان هذه الأبقار من اوروبا واميركا، كما تؤمن الاغنام الموجودة في لبنان حوالى 20% من حاجة السوق المحلي من اللحوم والحليب المشتق منها، بينما يستورد لبنان كل الكمية الباقية وهي 80% من حاجاته. أما الماعز فهي تلبي حوالي 80% من حاجات السوق المحلي وتنتشر بكثرة في معظم المناطق الجبلية، إضافة إلى الدواجن التي تلبي الدواجن البلدية 5 % من إنتاج لحوم الدجاج و10 % من إنتاج البيض، بينما توفر الدواجن الصناعية 95% من إنتاج لحوم الدجاج و90% من إنتاج البيض.
وفيما يخص تفاصيل الإنتاج المحلي مقارنة بالاستيراد، تشير تقديرات وزارة الزراعة اللبنانية إلى أن قطعان الأبقار تحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية والإنتاج، فيما تأتي الأغنام في المركز الثاني يليها الماعز، حيث يوفر إنتاج هذه المواشي فوائد غذائية واقتصادية وبيئية تساهم في توفير جانب من الأمن الغذائي.
التحديات
رغم الإمكانات الكامنة في قطاع الثروة الحيوانية في لبنان، إلا أنه يعاني من سلسلة من التحديات البنيوية والهيكلية التي تعيق تطوره، وتحد من قدرته على المساهمة الفاعلة في الاقتصاد الوطني. فشح الأراضي المخصصة للمراعي الطبيعية، والتي لا تتجاوز 1% من المساحة العامة، يفرض على المربين الاعتماد شبه الكامل على الأعلاف المستوردة مرتفعة الكلفة، وإلى الاعتماد على الأساليب التقليدية في تربية المواشي، ما يؤثر سلبا على الكفاءة وجودة المنتجات، ونتيجة ضعف كمية الإنتاج ونوعيته، فإن مساهمة الثروة الحيوانية في الناتج المحلي الإجمالي لا تزال محدودة، إذ لا تتجاوز 3%.
كما يشكل نقص اليد العاملة المحلية، وخصوصا المتخصصة، عائقا كبيرا أمام تطوير هذا القطاع، في ظل عزوف الشباب عن العمل الزراعي الحيواني، في ظل غياب السياسات الداعمة من الدولة، حيث لا يحصل المربون على قروض ميسرة أو مساعدات عينية أو دعم تقني منتظم، ما يتركهم في مواجهة الأزمات دون حماية أو خطة إنقاذ واضحة.
يذكر أن أزمة الدولار ورفع الدعم عن الأعلاف والأدوية البيطرية أدت إلى تضخم كلفة الإنتاج، مما أجبر كثيرين على بيع قطعانهم أو ذبحها قبل أوانها. وهجر البعض من المزارعين هذا القطاع نهائياً، في حين حاول آخرون تقليص حجم الإنتاج لتفادي الإفلاس. ويشير تقرير صادر عن المنظمة العالمية للأغذية والزراعة (FAO) إلى أن 40% من مربي الماشية في البقاع اضطروا إلى تقليص حجم قطعانهم خلال عام واحد، بسبب العجز عن توفير الغذاء والعلاج البيطري.
و منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) هي وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، تقود الجهود الدولية للقضاء على الجوع تعمل في أكثر من 130 دولة حول العالم، هدفها تحقيق الأمن الغذائي للجميع، والتأكد من حصول الناس بانتظام على ما يكفي من الغذاء عالي الجودة، ليعيشوا حياة نشطة وصحية مع أكثر من 194 دولة عضو.
ولا يمكن إغفال تأثير الحرب الأخيرة (2024–2025) التي أدت إلى قصف وحرائق واسعة النطاق في الجنوب والبقاع، وتسببت في نفوق آلاف رؤوس الماشية، وهروب أصحابها من مزارعهم.
الأضرار في الثروة الحيوانية
بلغت نحو 11 مليون دولار
وقد أكد مصدر في وزارة الزراعة أن "أضرارا جسيمة لحقت بالثروة الحيوانية والطبيعية في المناطق التي استهدفها الاحتلال الاسرائيلي بالاعتداءات، صور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا"، مضيفا "ما يفاقم من آثار الأضرار وحجمها هو إستخدام الفوسفور الأبيض – المقيد والمحظور الاستخدام – الذي أصاب التربة والمزروعات والأحراج، وكذلك الأراضي المفتوحة التي كانت تستخدم للرعي لأضرار مستدامة تتطلب وقتاً لاستعادة عافيتها".
ويظهر تقرير أولي صادر عن البنك الدولي والمجلس الوطني للبحوث العلمية، أن الأضرار في الثروة الحيوانية بلغت نحو 11 مليون دولار، بما في ذلك نفوق نحو 3 ملايين دجاجة وتضرر 10 آلاف متر مربع من مزارع الدواجن، ما يعمق الأزمة الزراعية والغذائية في البلاد، ويكشف حجم الكارثة التي خلفها هذا العدوان.
وكان إنتاج الثروة الحيوانية في لبنان يحتل في العام 2014 نسبة 39% مما ينتجه القطاع الزراعي (47% للدواجن و21% لإنتاج الألبان).
لخطة عمل وطنية شاملة
أمام هذا الواقع القاتم، تبرز الحاجة إلى تدخل سريع يعيد لهذا القطاع دوره الطبيعي في تأمين الغذاء والاستقرار، وذلك بوضع خطة عمل وطنية شاملة، ترتكز على إدخال الأساليب الحديثة في تربية الحيوانات، وتحسين إدارة المزارع، وتعزيز كفاءة الإنتاج وجودته، إضافة إلى الحد من الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية في تربية المواشي، لما لذلك من أثر إيجابي في تحسين الصحة الحيوانية وجودة التغذية، والحد من المشكلات الصحية المرتبطة بالاستهلاك البشري.
وفي شهر نيسان الماضي، حذرت وزارة الزراعة اللبنانية من خطر انتقال مرض الحمى القلاعيةFoot and Mouth Disease إلى لبنان، بعد رصد حالات جديدة في عدد من الدول المجاورة، بما في ذلك ظهور عترات فيروسية غير مسبوقة في المنطقة، ودعت الوزارة جميع مربي المواشي، من مزارعين وأصحاب مزارع، إلى التشدد في تطبيق إجراءات الوقاية واتخاذ خطوات عاجلة لحماية القطعان والمساهمة في منع تفشي المرض على الأراضي اللبنانية.
اشارة الى ان رئيس نقابة مربي الماشية خير الجراح أكد أن "صحة القطيع أساس الأمن الغذائي"، داعيا إلى "تشريع صارم وتفعيل دور البلديات والتعاونيات لدعم القطاع".
وأثار دخول عشرات الأبقار من "إسرئيل" إلى لبنان ليل الجمعة – السبت، نوعاً من الاستنفار في البلدات اللبنانية الحدودية، خصوصاً مع ورود تحذيرات من احتمال أن تكون هذه الأبقار ملوثة جرثومياً، وحذر رئيس بلدية بيت ليف عزت حمود، من "الاقتراب من الأبقار الموجودة في المنطقة، ريثما تتبين حقيقة دخولها إلى أراضينا". إلى ذلك تحدثت المعلومات عن أن العدو "الإسرائيلي" يجري اتصالات مع قوات "اليونيفيل" لاستعادة الأبقار الشاردة داخل الأراضي اللبنانية.
لحماية الإنتاج الحيواني المحلي
حماية الثروة الحيوانية في لبنان من هذه الأمراض تتطلب نهجا يرتكز على جهود مشتركة بين وزارتي الزراعة والصحة العامة، تشمل التحصين، الفحص الدوري للقطعان، وتثقيف المزارعين حول الممارسات الصحية السليمة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها لبنان.
ويعد تقديم قروض ميسرة بفوائد منخفضة وآجال سداد طويلة، أداة حيوية تشجع المزارعين والمربين على الاستمرار في هذا المجال والاستثمار فيه، كما يعتبر تشجيع الاستثمار في قطاعي اللحوم والدواجن أمرا ضروريا، ويمكن تحقيق ذلك من خلال توفير حوافز مالية ومساعدات عاجلة تتيح للمربين تطوير إنتاجهم ورفع كفاءتهم، كما يجب أن تترافق هذه الإجراءات مع دعم مباشر لأسعار الأعلاف، لتخفيف أعباء الكلفة الإنتاجية، لا سيما في ظل تقلبات الأسعار العالمية وتأثيرها على السوق المحلي.
وأخيرا، لا بد من تبني سياسة وطنية تهدف إلى حماية الإنتاج الحيواني المحلي من المنافسة الأجنبية غير العادلة، عبر تقييد الاستيراد العشوائي وتقديم الدعم التقني واللوجستي الكافي للمنتجين المحليين، بما يضمن تعزيز قدراتهم التنافسية واستدامة هذا القطاع الحيوي.
يذكر أن إدارة الثروة الحيوانية بوزارة الزراعة اللبنانية، وقعت امس مع الهيئة العامة للخدمات البيطرية بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي المصرية، بروتوكول تعاون مشترك، بهدف تنظيم استيراد الأبقار الحية المخصصة للذبح من لبنان إلى مصر، وإعادة تصديرها لحوما مبردة إلى الأسواق اللبنانية، بما يتماشى مع المعايير الدولية ويعزز التعاون في مجال الأمن الغذائي والثروة الحيوانية.
شريان حياة لعائلات كاملة
لبنان بخطر فقدان الاكتفاء الذاتي باللحوم والحليب إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فالثروة الحيوانية تحتاج إلى تدخل سريع، فالقطيع ينزف بصمت، والقرى تفقد أحد أبرز عناصر هويتها الاقتصادية والاجتماعية، إذا لم تتحرك الدولة والمجتمع الدولي بسرعة، لن يكون ما ينقذ. فالثروة الحيوانية ليست قطاعا هامشيا، بل شريان حياة لعائلات كاملة وجزء لا يتجزأ من منظومة الأمن الغذائي اللبناني، وإذا كانت الخسائر قابلة للتقدير بالمال، فإن خسارة الأمن الغذائي والاجتماعي لا تقدر بثمن. آن الأوان لوضع الثروة الحيوانية على خارطة الأولويات الوطنية.
يشار إلى أن وزارة الزراعة اللبنانية شاركت في أيار الماضي في اجتماعات الدورة الثانية والتسعين للجمعية العمومية للمنظمة العالمية للصحة الحيوانية (WOAH) التي عقدت في العاصمة الفرنسية باريس، في خطوة تعكس التزام لبنان بتطوير منظومته البيطرية، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الصحة الحيوانية.
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
22:59
تحليق للطيران المسيّر الإسرائيلي على علو منخفض في محيط السلسلتين الشرقية والغربية فوق بريتال الطيبة دورس مجدلون حزين طليا الخضر سرعين النبي شيت وشمسطار
-
22:34
زحمة سير خانقة على الأوتوستراد الساحلي من أنطلياس الى نهر الموت نتيجة اصطدام سيارة بالفاصل الوسطي على اوتوستراد الزلقا المسلك الغربي ودراج من مفرزة سير الجديدة يعمل على المعالجة
-
21:59
المتحدث العسكري للحوثيين: 3 طائرات مسيّرة استهدفت موقعا عسكريا إسرائيليا مهما في النقب وميناء أم الرشراش
-
21:43
مصدر أميركي: إسرائيل تعد واشنطن بوقف هجماتها على قوات الجيش السوري اعتبارًا من مساء اليوم
-
21:40
مصدر أميركي: واشنطن تطلب من إسرائيل وقف هجماتها ضد الجيش السوري في جنوب سوريا
-
21:28
أ ف ب: القضاء الفرنسي يطلب تحديد مكان وجود بشار الأسد في إطار تحقيق حول مقتل صحافيين في سوريا عام 2012
