اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بالبلاد، من انهيار اقتصادي إلى اضطرابات سياسية واجتماعية، تطفو على السطح أزمة قديمة – متجددة هي التنمر، حيث تتفشى بوتيرة متسارعة في المدارس والجامعات وأماكن العمل وحتى داخل الأسر، لتطال مختلف الفئات العمرية، مهددة السلام الاجتماعي والصحة النفسية وكرامة الفرد. وللأسف غالبا ما تهمل هذه الظاهرة أو تبرر تحت ستار "المزاح" أو "الطبيعة الساخرة"، في حين أنها تعكس في جوهرها انهيارات عميقة في منظومة القيم والتربية وأداء المؤسسات.

 التنمر في حقيقته ليس ظاهرة محصورة في المجتمع اللبناني فحسب، بل هو سلوك اجتماعي مقلق يتفشى في مختلف المجتمعات حول العالم، وإن بدرجات وظروف متفاوتة.

وتعرّف منظمة "اليونيسف" التنمر بالسلوك المقصود والمتكرر، الذي يهدف إلى الاستقواء على الطرف الآخر بهدف أذيته جسدياً أو نفسياً، وغالباً ما يكون الحادث نمطياً وليس عرضياً. كذلك، يكون المتنمر في موقع قوّة، كأن يكون أقوى من حيث البنية الجسدية أو أكبر سناً أو أكثر شعبية، بينما تكون الضحية في وضعية هشة، أي إما مهمشة اجتماعياً، أو من عائلة فقيرة، أو أنّها تعاني من إعاقة ما، أو أنها تنتمي إلى عرق مختلف.

لمى ابنة 12 عاما كانت تتعرض للتنمر بسبب وزنها، وكان أصدقاؤها ينادونها بـ" الفيلة أو الدبة"، وهذا دفعها إلى الامتناع عن الطعام، مما أدى إلى تعرضها لمشاكل صحية خطيرة، وانتهى بها المطاف إلى العلاج النفسي بحسب ما اكدت والدتها لـ "الديار".

 وتشير أم حسنان "ابني تعرض للتنمر لأنه لا يحفظ جيدا، صاروا يلقبونه بـ"الغبي" والمدرسة لم تتحرك، وأنا اضطررت أن أنقله الى مدرسة اخرى".

مؤشرات... ونصائح

وتوضح "جمعية إنقاذ الأطفال" في تقرير لها ، أن المؤشرات التي تدل على تعرض الطفل للتنمر:

 ـ علامات جسدية (كدمات، خدوش، جروح).

ـ  الخوف من الذهاب إلى المدرسة.

ـ التوتر والعصبية.

ـ قلّة الأصدقاء.

ـ الاستغناء أو خسارة الأصدقاء فجأة، وتفادي المناسبات الاجتماعية.

ـ فقدان أو تضرر الأغراض الشخصية.

ـ طلب المال.

ـ تراجع الأداء الأكاديمي.

ـ التماس عذر للتغيّب عن المدرسة.

ـ محاولة البقاء بجانب الراشدين احتماءً.

ـ قلة النوم وتكرر الكوابيس.

ـ التذمر من الصداع أو أوجاع في المعدة.

ـ العصبية والتوتر بعد قضاء وقت بمفرده، أو بعد استخدام تطبيقات التواصل.

ـ كتم الأسرار.

ـ تبني سلوك عدائي ومواجهة نوبات غضب.

وينصح الخبراء بتثقيف الأطفال حول ظاهرة التنمر ليكونوا أكثر استعداداً، لمواجهة أي موقف ضمن هذا الإطار، عبر التحدث مع الأطفال بشكل دائم والإصغاء إلى المواقف التي يواجهونها، وتدريبهم على أن يكونوا ذو تأثير إيجابي في حياة الآخرين، في حال شهدوا مواقف مشابهة، إضافة إلى تعزيز ثقة الأطفال بأنفسهم وقدراتهم، والتشجيع المستمر على المشاركة في النشاطات والصفوف والاندماج في المجتمع، وأن يكون الأهل قدوة لأطفالهم في التعامل بلطف واحترام مع الآخرين.

وتشير تقديرات اليونيسف إلى أن واحداً من كل ثلاثة طلّاب تراوح أعمارهم بين 13 و15 عاماً هو ضحية للتنمر، أمّا في لبنان، فتعرض ربع الأطفال للتنمر في عام 2021، بحسب الجمعية الفرنكوفونية للأمراض النفسية.

التنمر داخل العائلة وفي العمل

يشار إلى أن مؤسسة "أديان" أطلقت العام الماضي مبادرة مشتركة مع مؤسسة "Rethink" تعتمد على تطبيق منهج مكافحة التنمر وتحميل تطبيق "Rethink" على الهواتف الذكية، الحاصل على براءة اختراع ،لاقتراحه حلا لمسألة التنمر عبر الإنترنت. بدأ هذا التطبيق أولًا في الولايات المتحدة الأميركية، لكن التجارب المدرسية في لبنان، ونسب التنمر الكبيرة التي يتعرض لها الأطفال، دفعتا "أديان" بالشراكة مع مؤسسة "Rethink" إلى تعديله في إشراف متخصّصين في المجال التربوي، ليصبح منسجما مع السياق اللبناني. ويهدف هذا المشروع إلى التثقيف الرقمي للتلاميذ والتلميذات في لبنان، ونشر الوعي في صفوفهم حول خطاب الكراهية وكيفية مواجهته، وتعزيز السلوك الإيجابي.

ولا تقتصر مظاهر التنمر على المدارس فحسب، بل تمتد إلى مختلف البيئات الاجتماعية والمهنية، حيث تتكرر التجارب المؤلمة في أماكن العمل، داخل الأسر، وحتى على منصات التواصل الاجتماعي.

 فحسام موظف في شركة خاصة ببيروت، يؤكد أن "التنمر في العمل صار ظاهرة عادية. مديري ينتقدني بطريقة مهينة أمام الزملاء، ويسخر من أخطائي الصغيرة، أصبحت أخاف الذهاب إلى العمل، وزملائي يخشون التعبير خوفا من أن يكونوا الضحية القادمة".

 أما منى وهي ربة منزل، تشكو من التنمر داخل العائلة، وتقول: " أخي الأصغر يقلل من قيمتي أمام الجميع، وهذا يسبب لي إحباطا كبيرا، ويجعلني أشعر أنني بلا قيمة، وأحيانا أكره حضور الاجتماعات العائلية بسبب هذا".

أما ليلى وهي طالبة جامعية فتؤكد أنها تعرضت لهجوم شرس على مواقع التواصل، بعد نشر صورة لها في أحدى  الحفلات، فقد " بدأ البعض بالتعليق بسخرية جارحة، ثم تطورت التعليقات إلى تهديدات مباشرة وألفاظ مسيئة، فبت أخاف فتح حسابي أو حتى الخروج خوفا من الناس، وشعرت بالعزلة والاكتئاب".

انواع التنمّر

تقرير صادر عن "جمعية إنقاذ الأطفال" يؤكد ان هناك طفلا من بين اثنين يتعرض للتنمر في مرحلة ما من حياته، فيما تتوزع باقي النسب لضحايا التنمر في لبنان بين 59% للأطفال ما بين التاسعة والاثنتي عشرة من العمر، و45% للمراهقين.

وتتخذ سلوكيات التنمر أشكالا متعددة تختلف في حدتها وتأثيرها، لكنها جميعا تشترك في إلحاق الأذى بالضحية، وتعميق شعور العجز والخوف ومن أبرز هذه الأنواع:

ـ الإساءة اللفظية أو الخطية: مثل استخدام الألقاب المهينة، أو إطلاق النكات الجارحة، أو تداول عبارات وملصقات مسيئة، سواء وجها لوجه أو عبر وسائل التواصل.

ـ العنف الجسدي أو التهديد به: ويتضمن الضرب، الدفع، التهديد باستخدام القوة، أو إرهاب الضحية بوسائل مختلفة.

ـ التحرش الجنسي: وهو سلوك يحمل طابعا جنسيا غير مرغوب فيه، يسبب الخوف والإهانة للضحية، وقد تكون له تداعيات قانونية وجنائية.

ـ التمييز العنصري أو الطائفي أو الطبقي: يمارس من خلال معاملة الآخرين بطريقة دونية بسبب هويتهم العرقية، الدينية، أو الاجتماعية، ما يعكس أوجها عميقة من الإقصاء المجتمعي.

ـ التنمّر الإلكتروني: وهو من أكثر أشكال التنمر انتشارا وخطورة في العصر الرقمي، حيث يستخدم الإنترنت أو الموبايل لنشر الشائعات والتهديدات، أو إرسال رسائل جارحة تهدف إلى الابتزاز أو الإذلال، مما يترك أثرا نفسيا بالغا لدى الضحايا، خاصة فئة المراهقين.

التنمّر الالكتروني الاخطر

وانطلاقا من هذا الفهم، يمكننا البحث في الأسباب التي تفسر تفاقم التنمر في المجتمع اللبناني، إذ إن تفشي هذه الظاهرة لا يمكن فصله عن السياق العام للأزمات البنيوية والنفسية والاجتماعية التي تعاني منها البلاد. فقد ساهم الانهيار الاقتصادي، وارتفاع معدّلات البطالة، والفقر المتزايد، في تأجيج التوترات اليومية، وتوليد شعور عام بالإحباط والعجز، ما جعل التنفيس عن الغضب يُترجم أحيانا إلى سلوك تنمّري، لا سيما في البيئات التربوية والمهنية.

وتضاف إلى ذلك عوامل تربوية وثقافية لا تقل خطورة، أبرزها غياب التربية القائمة على احترام الآخر وقبول الاختلاف، حيث ينشأ العديد من الأطفال والمراهقين في بيئات تشجع على التسلط، أو تتغاضى عن العنف اللفظي والجسدي، سواء في المنزل أو في المدرسة، ويفاقم هذا الواقع غياب التوعية في المناهج التعليمية، وضعف دمج مفاهيم الصحة النفسية والعلاقات السليمة، ما يجعل التلاميذ في مواجهة التنمر دون أدوات حماية أو دعم فعال.

ولا يمكن تجاهل أثر غياب الردع القانوني أو عدم تطبيقه بفعالية، ما يترك المتنمّرين في موقع قوة من دون محاسبة. أما في العصر الرقمي، فقد اتخذ التنمر أبعادا جديدة وأكثر تعقيدا، مع انتشار التنمر الإلكتروني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يصعب رصده وملاحقته قانونيا، ويترك آثارًا نفسية عميقة وغير مرئية في كثير من الأحيان.

اعراض نفسيّة

ويؤكد علماء النفس أن تداعيات التنمر لا تتوقف عند لحظة الاعتداء أو الإهانة، بل تمتد لتترك آثارا نفسية واجتماعية عميقة تطال جميع الأطراف، "فمع انتشار هذا السلوك، تتحول العلاقات اليومية، خاصة في البيئات التربوية أو المهنية، إلى ساحات صراع صغيرة، وتزداد الفروقات الطبقية والطائفية والشخصية وضوحا وحدة، ما يؤدي إلى إنتاج جيل يفتقر إلى قيم التعاطف، والتضامن، والانتماء الجماعي، ما يعمق أزمة المجتمع ويقوض نسيجه الأخلاقي".

ويضيف العلماء أن "الضحية غالبا ما تعاني من القلق والعزلة، وانعدام الثقة بالنفس، وقد تتطور الحالة إلى الاكتئاب أو اضطرابات ما بعد الصدمة، وفي بعض الحالات القصوى، قد يلجأ الضحايا إلى إيذاء النفس أو حتى التفكير بالانتحار، خصوصا عندما يغيب الدعم الأسري أو المدرسي"، مشددين إلى أن "المتنمّر وعلى الرغم من مظهره القوي أو المسيطر، إلا أنه غالبا ما يكون هو نفسه ضحية سابقة في بيئته الخاصة، يعاني من العنف المنزلي أو الإهمال أو الحرمان العاطفي، فيعيد إنتاج العنف كوسيلة لفرض الذات أو تفريغ الغضب".

لتشريع قوانين رادعة

ويؤكد المتخصصون في الشأن التربوي أن التنمر، رغم خطورته، مشكلة قابلة للحل إذا توفرت الإرادة المجتمعية والسياسات المتكاملة، ويشيرون الى عدة خطوات يمكن القيام بها في هذا الإطار، بدءا من التربية الأسرية، إذ يجب أن يربى الطفل منذ الصغر على احترام الآخر، وضبط انفعالاته والتعاطف، والتعامل مع الاختلاف كقيمة لا كخطر، فالعائلة هي الحاضنة الأولى لتكوين الشخصية، والمرآة الأولى التي يرى فيها الطفل صورة العالم. إضافة إلى دمج التوعية في المناهج التربوية عبر حصص تفاعلية في المدارس، وبرامج توجيهية للأساتذة والأهل، تعرّف الأطفال والمراهقين بخطورة التنمر، وتنمّي فيهم مهارات التواصل، وحل النزاعات، واحترام الآخر، وتفعيل دور المرشدين الاجتماعيين والنفسيين، عبر تأهيلهم وتوفير التدريب اللازم لهم، وتعيينهم في المدارس الرسمية والخاصة، إلى جانب إطلاق خط ساخن مجاني وسري يتيح الإبلاغ عن حالات التنمر، وتلقي الدعم الفوري.

دون أن نغفل عن دور وسائل الإعلام، والناشطين على المنصات الرقمية، في كبح أو تأجيج الظاهرة. فالمطلوب الامتناع عن إنتاج أو ترويج محتوى ساخر يحرض على التنمر، أو يسخر من فئات ضعيفة أو مهمشة، وتشجيع محتوى يعزز القيم الإنسانية.

 وأخيرا لا بد من تشريع قوانين رادعة. وفي لبنان لا يوجد حتى اليوم قانون خاص يجرم التنمر بشكل مباشر، بل تدرج الحالات تحت عناوين عامة كـ"الذم" و"القدح" و"التحقير"، لذا لا بد من وضع إطار قانوني واضح، يحمي الضحايا في المدارس والجامعات ومواقع العمل، ويُحاسب المتنمرين بآلية تربوية-ردعية تميز بين الأعمار والمقاصد.

إن التنمر في لبنان ليس مجرد مشكلة فردية، بل هو انعكاس لأزمة أعمق في القيم والثقافة والتربية، ومواجهته تتطلب تضافر جهود الأسرة والمدرسة والإعلام والمجتمع المدني، إلى جانب سن قوانين واضحة ورادعة. فالمجتمع الذي لا يحمي أضعف أفراده، ولا يؤمن بحق الاختلاف، هو مجتمع يعيد إنتاج العنف جيلا بعد جيل.

الأكثر قراءة

ترامب يستقبل بوتين في ألاسكا.. و"تغيير ذو أهمية" في البرنامج