اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


بين جدران يفترض أن تكون ملاذا آمنا، تتحول بعض البيوت إلى ساحات خوف ورعب يحكمها الصمت، فتخنق الأصوات ويدفن الألم تحت عباءة العادات أو الخشية من الفضيحة، في ظل أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية تعصف بالبلاد ، تتزايد الضغوط موسعة دائرة المعاناة في بيوت يقيم العنف الأسري خلف أبوابها، إنها مأساة تتخطى الأفراد لتصيب المجتمع كله، وتصرخ في وجه الجميع كفى صمتا، فالبيت يجب أن يكون وطنا للأمان، لا مسرحا للألم.

وفي لبنان تتسع فجوة الأمان وتضيق مساحة الحلم، فيجد العنف الأسري تربة خصبة لينمو في الظل، صامتا أحيانا وصاخبا أحيانا أخرى، تاركا جراحا لا تراها العين، لكنها تنزف في القلب والروح، وباء اجتماعي يضرب صميم العائلة ويهدد نسيج المجتمع.

العنف الأُسري يعرض مستقبل الأسرة للخطر، حتى في المجتمعات المستقرة، حيث تتوتر العلاقات بين افرادها فيؤدي إلى مضاعفات نفسية وجسدية على المعنف، فما بالك بهكذا علاقات متوترة في ظل أزمات حادة ساهمت في تدهور العلاقات الأسرية، فالعنف الأسري في لبنان نتاج تداخل عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية وقانونية، فالأزمة المالية الحادة وما رافقها من بطالة وانهيار القدرة الشرائية فاقمت الضغوط داخل الأسر وزادت احتمالية انفجار التوترات، فيما تكرس الموروثات الثقافية السيطرة الذكورية وتبرر العنف كوسيلة "تأديب" ضمن قوالب نمطية تحدد أدوار المرأة والرجل، إضافة إلى الاضطرابات النفسية غير المعالجة، والإدمان على الكحول والمخدرات، والنشأة في بيئات عنيفة تعيد إنتاج السلوك نفسه عبر الأجيال، كما يسهم ضعف الحماية القانونية، رغم صدور القانون رقم 293/2014، في استمرار الظاهرة نتيجة الثُغر التشريعية، وضعف التنفيذ، وبطء الإجراءات القضائية.

في هذا السياق، أوضحت المحامية ليلى عواضة، الشريكة المؤسسة في منظمة "كفى"، لـ"الديار" أن العنف الأسري بحسب القانون 293 في القانون اللبناني، يتمثل في التصرفات الحادة التي تلحق الأذى أو الضرر بأحد أفراد الأسرة، سواء كان من الزوج لزوجته، أو من الأهل تجاه الأطفالط، مضيفة "العنف يمارس من شخص صاحب سلطة على آخرين تحت سلطته، وبموجب قانون الأحوال الشخصية يعتبر الرجل صاحب السلطة المطلقة في الأسرة، ما يجعل النساء والأطفال الأكثر عرضة للعنف" وأشارت أن "العنف الأسري لا يقتصر على فترة العلاقة الزوجية بل قد يستمر حتى بعد انتهائها، وهو أمر يعاقب عليه القانون أيضا".

وأظهرت دراسة كندية (2009) أن 17% من المعنفين قد تعرضوا للعنف من شركائهم السابقين، و32% منهم يتعرضون للعنف المباشر بعد الانفصال، وأن نسبة الضحايا الأكبر من النساء بلغت 36%.

تشرح عواضة أن مفهوم "أفراد الأسرة" في القانون اللبناني واسع، ويشمل الزوجين وأهلهما، الأولاد، الإخوة، وكل الأصول والفروع، بما في ذلك زوج الأم وزوجة الأب، وأكدت أن منظمة "كفى" لديها استراتيجية لمواجهة العنف الأسري تقوم على تقديم تشريعات واقتراح قوانين إلى مجلس النواب، تطالب فيها بقانون شامل لمناهضة العنف ضد المرأة داخل وخارج الأسرة، مع عقوبات رادعة وإجراءات حماية فعالة تمكّن النساء من الدفاع عن أنفسهن".

ويتخذ العنف في الأسرة أشكالا متعددة، من العنف الجسدي، النفسي أو العاطفي عبر الإهانة والسخرية والتهديد والعزل الاجتماعي، إلى العنف الجنسي الذي يشمل الاغتصاب الزوجي والتحرش بالأطفال، إضافة إلى العنف الاقتصادي الذي يفرض التبعية من خلال التحكم بالمال والممتلكات، ومنع الضحية من العمل أو التصرف بحريتها المالية، وأخيرا الإهمال، حيث يحرم الطفل أو المسن أو المريض من الغذاء أو الدواء أو المأوى.

ولمواجهة العنف بفعالية، شددت عواضة على ضرورة دراسة أسباب العنف وتركيبة العلاقة السلطوية داخل الأسرة، التي تمنح طرفا واحدا سلطة مطلقة تتحكم بمصير الأسرة، وأوضحت أنه" إذا لم يتم تعديل قانون الأحوال الشخصية وصياغة قانون موحد يعكس المساواة، وتصبح المرأة شريكة أساسية في هذه العلاقة وليست تابعة للرجل وملزمة بطاعته، كما هو الحال في بعض قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، وإذ لم يتحقق هذا التغيير وتوضع أسس جديدة للأسرة تقوم على الشرْكة والمساواة، سيستمر تعرض النساء للعنف".

وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن امرأة من كل ثلاث نساء في لبنان تعرضت لعنف جسدي أو جنسي خلال حياتها، وهو معدل يوازي المتوسط العالمي لكنه يتفاقم بفعل الأزمة الراهنة. من هنا، تعمل منظمة "كفى" على "تغيير سلوك المعنفين من خلال برنامج "الاختيار"، الذي يوفر جلسات تأهيل للمعنفين المحالين من المحكمة بموجب قرار حماية، أو الذين يلتحقون طوعا، بإشراف اختصاصيين في المنظمة" بحسب عواضة.

ونصحت عواضة كل امرأة تتعرض للعنف الأسري بالاتصال فورًا على الخط الساخن (03018019) أو التواصل مع قوى الأمن الداخلي عبر الرقم (1745)، مؤكدة أن التبليغ هو الخطوة الأولى لوضع حد للعنف.

يشار إلى أنه في القانون اللبناني لم يكن هناك ما ينص على حماية النساء وباقي أفراد الأسرة من العنف الأسري سابقا، بل يقتصر قانون العقوبات اللبناني على تجريم أفعال الضرب والايذاء والقدح والذم فقط، إلى حين تم إقرار القانون رقم 293: "قانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري" عام 2014، والذي ينص أولاً على: تجريم المعتدي كما هو مدون في قانون العقوبات مع تشديد العقوبة على المرتكبين في حال حصلت الجريمة داخل الأسرة الواحدة، ثانيا، يتضمن قسما يحمي الضحية عبر إبعاد المعنف عنها وعن أطفالها عبر تقديم ما يسمى بطلب حماية".

ومع ذلك، فإن مجرد وجود هذا القانون لا يكفي وحده لمواجهة الظاهرة، بل يتطلب الأمر تعزيز القوانين القائمة وسد الثغر القانونية، مع تسريع المحاكمات وتشديد العقوبات على مرتكبي العنف وتوفير أوامر حماية فورية للضحايا، بالإضافة إلى دعم الضحايا نفسيا واجتماعيا عبر إنشاء مراكز مختصة، وبرامج إعادة تأهيل لكل من الضحايا والمعتدين، كما تكتسب التوعية المجتمعية أهمية بالغة من خلال حملات إعلامية وتربوية تستهدف كسر ثقافة الصمت وتغيير المفاهيم التي تبرر العنف، ولا يقل تمكين المرأة اقتصاديا واجتماعيا أهمية عن ذلك، عبر توفير فرص عمل، وبرامج تدريب مهني، وشبكات دعم تمنحها الاستقلالية والحماية من الابتزاز والعنف، وأخيرا، يجب تعزيز التنسيق بين جميع الجهات المعنية من وزارات، قوى أمنية، جمعيات ومنظمات دولية، لضمان استجابة شاملة وسريعة تضع حدا لهذه الظاهرة المتفشية.

وعممت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي تقريرها لشهر تموز 2025 لعدد الاتصالات المتعلقة بحالات العنف التي تتلقاها عبر الخط الساخن 1745 والتي يتم التبليغ عنها، بالإضافة إلى تحديد هوية الجاني أو الجانية بالنسبة إلى الضحية، وجاءت كالآتي

- عنف جسدي: 59

- عنف جنسي: صفر

- عنف اقتصادي: صفر

صفة الجاني بالنسبة الى الضحية: الزوج 28، الاب 23، الاخوة 2.

العنف الأسري في لبنان ظاهرة مقلقة تتفاقم بصمت خلف جدران البيوت، وتشمل النساء، الأطفال، وكبار السن على حد سواء والمعالجة لا تقتصر على القوانين وحدها، بل تتطلب تغييرا ثقافيا عميقا، وبناء منظومة حماية متكاملة تضع كرامة الإنسان وأمنه في صلب أولوياتها.

الأكثر قراءة

خطة الجيش لحصر السلاح... جانب سياسي وآخر تقني ــ عسكري؟ القرار القضائي يهز الوسط المالي: بداية رحلة استعادة الودائع؟