اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

منذ اندلاع الانهيار المالي في لبنان عام 2019، ما زالت تداعيات الأزمة تفرض نفسها على الواقعين الاقتصادي والاجتماعي، فيما تتجدّد التساؤلات حول جذورها التاريخية، وأسبابها البنيوية، ومسارات الخروج الآمن منها. وفي هذا الإطار، يقدّم البروفسور حسن يوسف الموسوي، مدير كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال – الفرع الخامس في الجامعة اللبنانية، قراءة معمّقة تستند إلى تحليل متدرّج للأحداث، بدءاً من المؤشرات المسبقة للأزمة وصولاً إلى المستجدات التشريعية والنقدية في عام 2025.

الجذور السابقة لانفجار الأزمة

يؤكد الموسوي أنّ الأزمة لم تبدأ فعلياً في 17 تشرين الأول 2019، بل تعود جذورها إلى ما قبل ذلك بسنوات. فمنذ عام 2017، أخذت الثقة بالنظام المصرفي تتراجع تدريجياً، بالتزامن مع تقلّص السيولة بالدولار الأميركي، واشتداد الضغوط الإقليمية والدولية على بيئة الاقتصاد اللبناني. وقد ساهمت عوامل متعدّدة في هذا التدهور، من بينها الاضطراب السياسي الداخلي، وارتفاع منسوب التوتر في العلاقات الخارجية، وفرض العقوبات على إيران وبعض القوى الإقليمية المتعاملة مع لبنان. هذه العوامل دفعت إلى انكماش الكتلة الدولارية المتداولة، وارتفاع الطلب على النقد الأجنبي في السوق الموازية، ما مهّد لفرض قيود غير رسمية على حركة الودائع وتعدد أسعار الصرف.

الأسباب البنيوية وتفاقم الخسائر

يضيف الموسوي أنّ جوهر الأزمة يكمن في اختلالات هيكلية مزمنة، أبرزها:

العجز المزمن في ميزان المدفوعات الذي استنزف تدفقات العملات الأجنبية.

توظيفات مصرفية مفرطة في أدوات الدين العام ومعاملات مع مصرف لبنان، وهو ما جعل المصارف مكشوفة على المخاطر السيادية والنقدية في آن واحد.

هذه الممارسات راكمت خسائر نظامية انعكست مباشرة على حقوق المودعين، حتى قدّرت تقارير دولية وإعلامية الفجوة المالية التي ابتلعها النظام المالي بأكثر من 70 مليار دولار. وهي فجوة لا يمكن ردمها من دون برنامج إعادة هيكلة شامل للقطاع المصرفي والمالية العامة، مع أولوية واضحة لحماية صغار ومتوسطي المودعين من أي اقتطاعات جائرة.

المستجدات النقدية في 2025

شهد النصف الأول من عام 2025 بعض التعديلات على سقوف السحوبات النقدية، حيث قرّر مصرف لبنان رفع السقف الشهري في التعميم 158 من 500 إلى 800 دولار، وفي التعميم 166 من 250 إلى 400 دولار، بدءاً من 1 تموز، مع تمديد الإطار الاستثنائي لعام إضافي. ورغم أن هذه الخطوات تخفّف جزئياً من ضغوط السيولة على الأسر، فإنها تبقى في إطار الإدارة المؤقتة للأزمة، لا في سياق الحل النهائي.

وفي اليوم نفسه، أصدر المصرف المركزي القرار الأساسي 13729/التعميم 169 الذي يقيّد المدفوعات من الودائع الدولارية السابقة لـ17 تشرين الثاني 2019، في ما يشبه فرض “كابيتال كونترول” تنظيمي بحكم الأمر الواقع، بانتظار إقرار قانون شامل من البرلمان. ويعكس ذلك استمرار الاعتماد على أدوات تنظيمية مرحلية لضبط حركة الأموال، خصوصاً التحويلات من "اللّولار" إلى النقد "الفريش".

التطورات التشريعية

عام 2025 شهد تقدماً ملحوظاً في بعض الإصلاحات القانونية، إذ أقرّ البرلمان في 24 نيسان تعديلات جوهرية على قانون السرية المصرفية، بما يتيح للجهات الرقابية والقضائية الاطلاع على بيانات الحسابات بأثر رجعي، وهي خطوة أساسية لاستعادة الثقة وتحقيق الشفافية. كما أقرّ في نهاية تموز قانون إعادة هيكلة المصارف الذي ينشئ هيئة متخصّصة في صلاحيات الدمج والتصفية وإعادة الرسملة، مع ترحيل تحديد توزيع الخسائر إلى قانون لاحق يعالج "الفجوة المالية".

الوضع المالي والقدرة التمويلية

تشير البيانات إلى أن الأصول الخارجية أو الاحتياطيات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان بلغت نحو 10.5 مليارات دولار في شباط 2025، وهو مستوى يفرض حذراً شديداً في أي استخدام لاحتياطي الإلزام أو تمويل مباشر لردّ الودائع، ما لم يُدمج ذلك في إطار إصلاحي شامل يضمن الاستدامة.

المشهد السياسي الجديد

مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في 9 كانون الثاني 2025، انتهى فراغ رئاسي دام أكثر من عامين، مما أتاح فرصة لنهج سياسي أكثر تماسكاً مع المجتمع الدولي، وإمكانات أكبر لدفع الإصلاحات المرتبطة بالحوكمة والقطاع المالي. لكن الدعم الخارجي سيبقى مشروطاً بخطوات ملموسة وقابلة للقياس.

أولويات مقترحة للخروج الآمن

يطرح الموسوي سلّة من الأولويات التي يرى أنها تشكّل قاعدة لخارطة طريق عملية:

الاعتراف القانوني الكامل بالودائع كدين مستحق على المصارف والدولة، ورفض أي تقسيم زمني بين ما قبل/بعد 2019، مع تنظيم الجدولة على أسس موحّدة وعادلة.

تسريع تنفيذ قانونَي السرية المصرفية وإعادة الهيكلة، بما يحمي صغار ومتوسطي المودعين، ويشجع على دمج المصارف المتعثرة ضمن عملية منظمة.

الانتقال إلى قانون كابيتال كونترول واضح ومحدد المدة والقواعد، يضمن المساواة بين المودعين ويعطي الأولوية للمدفوعات الاجتماعية (الصحة، التعليم، التقاعد) بسقوف معلنة.

تحسين تحصيل الإيرادات العامة وإدارة أصول الدولة عبر شراكات استثمارية منضبطة، وتخصيص نسبة ثابتة من العوائد لصندوق مستقل يُعيد الودائع تدريجياً، بالتوازي مع إصلاح مالي يخفّض العجز ويضبط الدين العام.

الخلاصة

يختتم الموسوي بأنّ أي زيادة في سقوف السحوبات أو تدخّل في سوق الصرف يجب أن يُنظر إليه كإجراء داعم لا كبديل عن المعالجة البنيوية. فالمعيار الحقيقي للنجاح يتمثل في وجود خطة تنفيذية بمواعيد نهائية، وتوزيع عادل للخسائر، وضمان فعلي لحقوق المودعين، بعيداً عن الحلول الترقيعية التي أثبتت محدوديتها.

الأكثر قراءة

«إسرائيل» تفرض واقعها جنوب لبنان... لا تعهدات ولا ديبلوماسية توقفها قلق من مرافقة السناتور غراهام المتشدد «اسرائيليا» لبرّاك واورتاغوس الى بيروت