اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

يقول أمبرتو إيكو في مقدّمة روايته اسم الوردة: "إنّ ما لا يمكن تنظيره ينبغي سرده"، في إشارة إلى ما في السّرد والرّواية من بناء نظريّ وثقافيّ، ورواية منير الحايك بؤرة قلق لجملة تنظيرات اجتماعيّة وثفافيّة وسياسيّة، تُخرج البطل الإشكاليّ من المعنى المألوف وفق التّسمية البنيويّة التّكوينيّة، "وتحديدًا عند لوكاش وغولدمان، من كونه بطلًا يتموضع ضمن مشكلات مستعصية، تصعب مواجهتها بوعي واضح وحاسم، لهذا يراوح البطل بين وعي واقع ممكن وشقيّ"، يُخرجه من هذا المعنى المتعالي إلى البطل اليومي الهامشي، حيث يكون أبطال الرّواية من النّاس العاديّين، فقد تكون البطولة في أن لا تكون بطلًا.

لا بطل محدّد في رواية "جامع أعقاب السّجائر" لأنّ كلّ شخوصها أبطال، ذلك أن منير الحايك يهدف إلى جعل الإنسان العادي بهمومه ومشاكله اليوميّة بطلاً، إنّها بطولة اليوميّ والعاديّ ، "فجامع أعقاب السّجائر" مصطفى والد منير أو منير نفسه بطل عاديّ يتعصّب لأفكاره وانتمائه، يسمع الزّجل ويكتب قصيدة، يشهد شهادة زور من أجل إطعام أولاده، يُتاجر بالممنوعات، ويدخل السّجن، وينأى بنفسه عن الحرب الأهلية، ويحمي جاره المختلف عنه فكرًا وسياسة وانتماء. كما ورد في الصّفحة 132 من الرّواية: "لم يقم بأيّ عمل بطوليّ، برأيي حمى نفسه وأسرته من كلّ الملوّثات الّتي عصفت ببلاده، أوليس هذا عملًا بطوليًّا بحدّ ذاته!؟"

وعبد العظيم صديق مصطفى بطل أيضًا، تُشكّل شهادته بمصطفى من خلال الرّسائل المتبادلة بينهم حيّزًا واسعًا في الرّواية. هو بطلٌ لأنه سافر كي لا يقع في الحُرم بعشق معلّمته المتزوّجة، وبطل حين عاد إلى لبنان خلال الحرب حين هاجر الكثيرون.

وصادق الجبالي الشّاب الأردنيّ الّذي ربطته صداقة مراسلة بمصطفى بطلٌ أيضًا، بطل عادي، بطل هامشيّ، حين أغلقت الدّنيا أبوابها في وجهه وعجز عن إهداء أمّه شيئًا في عيد الأمّ، ساقه القدر إلى قرية الكرامة حيث (جرت المعركة الشهيرة المسمّاة باسمها)، حضوره إلى القرية كان للقاء سمسار يسهّل عمل الشباب الأردنيّين والفلسطينيّين في أرض العدوّ، وقد كاد أن ينزلق إلى ما يتنافى مع منظومته القيميّة الأخلاقيّة والوطنيّة. حيث عاش صراعًا داخليًّا مريرًا، هو الصّراع بين اليوميّ والقيميّ، بين الهمّ الفردي والهمّ الجمعيّ لدى كلّ مواطن عربي. كما أنّه عاش الصّراع الوجوديّ مع الموت، حيث رأى الموت وجهًا لوجه، ما أدخله في دوّامة كوابيس جاءه فيه الموت على شكل رجل مقطوع الرّأس، بطولته في أنّ قصّته انتهت بشكل عاديّ غير ما ينتظره القارئ. يقول منير الحايك في الرّواية، في الصّفحة 62: " تتساءلون لماذا لا تنتهي قصّته بأن يكون مناضلًا أو عميلًا، لأنّ هذا الأمر يحدث، لكن يمكن لأيّ منّا أن يكون إنسانًا عاديًّا، وأن تُكتب قصّته".

ومنير الرّواية بطل، لأنّه يصنع من مصطفى العاديّ وبعض الشّخوص أبطالًا ، ولأنّه بطل في نظر مايا. ومايا الّتي ترمز إلى جيل السوشيل ميديا وتجعل صراع الأجيال يطفو على سطح الرّواية، بين جيلها المعاصر وجيل منير الأب (جيل الكتابة والورق والقلم)، (ثنائيّة الكتابة الإلكترونيّة والكتابة الورقيّة) وكأنّها تطرح قضيّة الكتابة الورقيّة على المحكّ، بطلة لأنها تصنع من منير كاتبًا. وآغوب السّجين بطل، آغوب الّذي يسميّه منير بزوربا الأرمني اللّبناني، لأنّه يُخرج بذرة الفنّ والإبداع في مصطفى خلال سجنهما معًا، ويخرجه من قوقعته وانغلاقه. فالكلّ في الرواية بطل، لأنّ كلّ واحد فينا هو بطل قصّته الخاصّة.

في الرّواية زمنان: زمن الأحداث المكتوبة، وزمن الكتابة. زمن الأحداث المكتوبة هو الفترة الّتي امتدّت في ستينيّات القرن الماضي حتّى الأحداث اللبنانيّة ضمنًا عام 1975، ما قبل الحرب والحرب، إرهاصاتها وأحداثها، وزمن الكتابة هو الزّمن الّذي تبادل فيه منير ومايا استذكار هذه الأحداث في الزّمن الأوّل. وهو الآن، "الآن الوهميّ" الّذي يُخيّل إلى القارئ أنّه يعيشه حين يقرأ الرّسائل المتبادلة بين منير ومايا والّتي تتحدّث عن رسائل مصطفى، و"الآن الحقيقيّ أو المعاصر" الّذي يمثّل الواقع الرّاهن في لبنان بما فيه من أزمة معيشيّة واقتصاديّة خانقة، وانقسام سياسي، وهجرة الشّباب، فهل يضعنا منير الحايك أمام تماثل وتشابه بين الزّمنين؟ وهل ينذرنا أن هذا البلد ذاهب إلى الخراب من جديد نتيجة تشابه الإرهاصات بين اليوم والأمس؟ هل يُخوّفنا منير في المستقبل نتيجة قراءة الشّبه بين الحاضر والماضي؟

أما المكان وهو ملعب منير الحايك ذلك أنّه أكاديميًّا متخصّص به، فهذه الأكاديميّة واضحة وسلسة في آن في الرّواية، على عكس ما يُتوقّع إذ غالبًا ما تكون الأكاديميا عبئًا على الأدبيّة. ويُحسن منير الحايك لعبة الأماكن، ويضعها في ثنائيّات منسجمة مع التّعدديّة في الشّخصيّات، وفي كلّ شخصيّة على حِدة: الرّيف/المدينة، القرية/بيروت، الوطن/المهجر، لبيت/السّجن، وكلّها أماكن عجنت الشّخصيّات، وتحديدًا مصطفى الّذي كان السجن نقطة تحوّل كبرى في شخصيّته، رسمت كلّ ما بعدها حيث تعرّف إلى آغوب الآخر المختلف، ومن خلاله تعرّفه على "أناه"، على مصطفى المخبوء وراء مصطفى الّذي صنعته الأماكن الأخرى (الرّيف- الغربة-بيروت)، في علامة سيميائيّة على أنّ فهم الذّات ومعرفة الأنا لا يكون إلّا من خلال الآخر المختلف. هذا السّجن هو الّذي جعله ينزوي في بيته في الحرب الأهليّة، فصار البيت وطنًا حين صار الوطن غابة من حريق، يتقاتل أبناؤه بدلًا من التّفاهم على رسم هويّتهم الخاصّة والمشتركة. هذه الهويّة الخاصّة تؤرّق منير الحايك، لذلك يبحث عنها في الكتابة، فأيّة علاقة تجمع بين الهويّة والكتابة؟

كلّ من في الرّواية يكتب بطريقته: مصطفى يكتب الرّسائل، ويُحاول كتابة قصيدة متأثّرًا بولعه بالزّجل اللّبناني. عبد العظيم وصادق الجبالي يكتبان بالمراسلة. منير يكتب الرّسائل إلى مايا، ويكتب رواية "البطل" من دون أن يعرف. مايا تكتب مع منير روايته وتصنع منه راويًا أو كاتبًا. ونحن كقرّاء أمام رواية في رواية:

رواية "البطل" الصادرة عن دار العالم، في رواية "جامع أعقاب السّجائر"، الصّادرة عن دار الفارابي، فنحن نوجد حين نكتب، ونكون حين نكتب، فتصبح الكتابة فعل وجود وكينونة، فضلًا عن كونها وسيلة تعبير، وهنا يخرج منير الحايك الكتابة تحديدًا، والأدب عمومًا من وظيفته التّصويريّة التّأريخيّة الّتي تندرج تحت مسمّى نظريّة الانعكاس في الأدب، والقائلة أن الأدب يصوّر الواقع، إلى مكانة أعلى يصبح فيها الأدب فعل خلق لعالم جديد مغاير عن العالم الرّاهن، وهذا ما ينسجم مع مقولة الإنكسار في الأدب، أي أنّ وظيفة الأدب هي إعادة صياغة العالم وإنتاج الواقع، وليست مجرّد تصويره أو وصفه. الكتابة عند منير الحايك ليست استنساخًا للأحداث، بل خلقًا لها.

"أنا أكتب إذًا أنا موجود"، وأنا موجود إذًا أنا بطل في رواية قابلة للكتابة.

وهذا يقودنا إلى سؤال جوهريّ: هل ما زالت الكتابة تصلح لإصلاح ما انهدم؟


الأكثر قراءة

إشربوا حليب السباع وزوروا دمشق